أذكر أنني في عام 2004 كنت عائداً للتو إلى منزلنا في حمص لتمضية عطلة صغيرة بعد أسابيع دراسية مليئة بالمحاضرات في دمشق حيث كنت أدرس، وكان الباب قد قُرع وإذ خلفه رجلان في عقدهما الرابع، متجهمان، يسألان عن عدد أفراد أسرتنا، وعلى الفور خطر ببالي أنهم من أحد الفروع الأمنية التي كانت تسأل أحياناً عن شخص ما بحجة الإحصاء أو على أنهم من شركة الكهرباء أو المياه، فأجبتهم جواباً لا يتعلق بما يسألون على الإطلاق، ليشرحا لي أنهم فعلياً يقومون بإحصاء لعدد السكان ويريدون أن يعرفوا بعض المعلومات، فرحبت بهم وأجبتهم بكل صدرٍ رحب مستعيناً بالوالدة التي كانت تحفظ تواريخ ميلاد أخوتي وأخواتي العشرة أكثر مني.
كان إحصاء عام 2004 هو أخر إحصاء فعلي رسمياً، وقد أعلنت الحكومة في ذلك الوقت بأن عدد السكان في سورية 17.8 مليون نسمة بقليل ولم يختلف الرقم المعلن عن تقديرات المكتب المركزي للإحصاء لعدد السكان في عامين سابقين، ففي عام 2003 كان 17.7 مليوناً، كما أُعلن عن أن نسبة النمو السكاني في ذلك الوقت كانت 2.3%.
عند مراجعة البيانات السكانية لسوريا نجد أن عددهم في 1966 كان 4.5 مليون نسمة، وفي 1970 وصل عدد سكان البلاد إلى 6.3 مليوناً بزيادة قدرها 35% عن 1966، ثم نجد أن العدد وصل إلى 9 ملايين تقريباً في 1981 بزيادة قدرها 42% تقريباً، ثم تنقطع السلسلة المعلن عنها رسمياً حتى عام 1994 بعدد سكان قدره 13.7 مليوناً وبزيادة تقترب من 53% عن الرقم المعلن عنه سابقاً وهي زيادة كبيرة للغاية ولا شك.
لو أخذنا عام 2004 وقارناه بما هو معلن في 1994 لوجدنا أن الزيادة تقل عن 30%، وقد يقول قائل أن الارتفاع في العدد في الثمانينات قد يعود إلى زيادة معدلات الخصوبة، والتراجع في الزيادة في التسعينات هو بسبب الوعي الاجتماعي تجاه مسؤولية الأسرة لمزيد من الأطفال، ولكن الأمر يمكن نقضه من خلال ارتفاع نسبة النمو السكاني المعلن عنها في 2007 مثلاً والتي فاقت 4.2% رسمياً، كما أن فترة الثمانينات كانت فترة صعبة هاجرت فيها أعداد كبيرة من الأسر السورية وتعرض عدد أخر من الرجال للاعتقال، كما أن الظروف الاجتماعية لم تكن عاملاً مساعداً على -بأي شكل من الأشكال- على زيادة نسبة النمو، فمن أين أتت كل هذه الزيادة في عدد السكان؟.
ربما يساعدنا التقدم الزمني قليلاً على فهم الأمر، ففي عام 2020 أجرى النظام السوري انتخابات مجلس الشعب، وأعلن وزير الداخلية في حكومة النظام بأن عدد من يحق لهم الانتخاب هو 19 مليوناً! أي الأفراد السوريين ممن تتجاوز أعمارهم 18 عاماً، وهو ما يجعل عدد السكان الكلي للبلاد أكثر من 26 مليوناً، وهي تقديرات مبنية على حالة استقرار عالية وازدهار اقتصادي ومعدلات خصوبة مرتفعة مع رقم وفيات متدني للغاية، وهذا عكس ما يجري في البلاد منذ 2011 على أقل تقدير.
عندما بدأت الهجرة الكبرى للسوريين نتيجة أعمال العنف والملاحقات التي بدأها النظام السوري وجد هؤلاء أن المدن الغربية المشابهة لمدنهم تحتوي على عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف على أكبر تقدير، وبأن البيانات يتم تحديثها بشكل مختلف عما يجري في بلادهم حيث تسجل الولادات على الفور عبر الكمبيوتر مما يظهر الرقم الكلي للجهات المسؤولة التي تصدر تقارير دورية حول الأمر، لك أن تخيل أن عدد سكان استراليا مثلاً هو 25 مليون نسمة بينما عدد سكان سوريا هو 26 مليون نسمة، علماً أن مساحة استراليا 7.6 مليون كيلومتر مربع أي مايزيد عن مساحة سورية 41 مرة. كذلك فإن عدد سكان كندا 35 مليوناً بمساحة أكبر 53 مرة من مساحة سورية، وقد يقول قائل: “أن هذه دول تتمتع بمساحات شاسعة خالية من السكان”، ولكن في حال أخذنا ولاية مثل نيويورك الأمريكية -وهي أحد أكثر البقع اكتظاظاً بالسكان في العالم، وتشتهر بناطحات السحاب والأبنية الشاهقة والكثافة السكانية العالية- فإن عدد سكانها يبلغ 8.3 مليوناً فقط بينما تقترب مساحتها من مساحة سورية.
أذكر أنني عندما كنت طالباً في مرحلة الماجستير عام 2008 أخبرنا أحد مدرسينا العاملين في المكتب المركزي للإحصاء بأن جهة حكومية مهمة طلبت منهم تعديل معدلات البطالة لهذا العام كون الإحصاءات أظهرت أنها مرتفعة، وكان الرقم قد تم تخفيضه حوالي 4% بسبب أمر أتى عبر الهاتف.
زيادة عدد السكان يعني زيادة وزن الدولة، وزيادة مساحتها كذلك، ولكن المساحة هي أمر مكشوف للجميع عبر أقمار صناعية وخرائط مرسومة منذ فترة بعيدة، لذا فإن تعداد السكان يمكن أن يكون من الجيد التلاعب به وبنتائجه النهائية بسهولة لزيادة وزن الدولة سياسياً وأمنياً، وهو ما حرص عليه النظام السوري دائماً.
على أي حال فإن الحكومات المتعاقبة على سورية في عهد النظام السوري لم تكن صادقة في أي شيء، فلماذا تصدق في عدد السكان؟.