يحكي فيلم "مساحة العمل" –"office space" المنتَج عام 1999 كيف لبيئة العمل الرتيبة أن تقتل الطموح والأمل، وليس ذلك وحَسْب بل كذلك النفسية الخاصة ببعض الموظفين. بطل الفيلم الذي أُصيب بحالة من الاكتئاب الشديد نتيجة الروتين والخمول الذي تعانيه شركته بات يتردد على طبيب نفسي ليساعده في التخلص من مشاكله ثم بات يتمرد على روتين الشركة ويخالف كل ما هو موضوع في الشركة من تقاليد بعد أن تُوفِّي طبيبه النفسي الذي قطع أشواطاً كبيرة في طريق علاجه.
والمؤسف أنه ليس فقط في الأفلام تموت نفسيات الموظفين وتتحطم آمالهم ولكن في الحياة الواقعية لدينا كثير من النفسيات المكسورة. قبل فترة تعرَّفْتُ على شخص يخاف من السيارات الحمراء لدرجة أنه يكاد يهرب في حال رآها، وقد عرفت فيما بعد أن سيارات الشركة التي كان يعمل بها طيلة ست سنوات ذات لون أحمر، وأنه خرج من الشركة وهو يكره ليس فقط الشركة بل كل ما يرتبط بها، رغم أنه بعد تخرجه من الجامعة والتحاقه بالشركة أجاب على سؤال "أين ترى نفسك بعد خمس سنوات؟" من خلال أنه يرى نفسه مديراً للشركة ذاتها! لقد تغيرت نفسية ذلك الشاب النشيط الذي كان يطمح أن يصبح مديراً للشركة إلى كارهٍ حقيقي لها، ينصح كل مَن يقابله بأن لا يتعامل معها ولا يشتري منتجاتها، لقد تحوَّل يومه من إنجاز أعمال لصالح الشركة إلى إنجاز أعمال ضدها.
الموظف النشيط مختلف عن الموظف المتحمِّس، فالمتحمِّس مدفوع بعاطفة قد تصطدم بخيبة أمل الواقع وقد تتحفظ بعض الشركات على الحماس الزائد؛ لأنها تدرك أن العواطف يجب أن تكون في الحد الذي يسمح بالتعامل مع الوقائع وتقليل خيبات الأمل، ولكن الموظف النشيط هو إنسان مُتَّقِد من الداخل ويستطيع أن ينتج أكثر من غيره بدافع حبه للعمل أو إتقانه له أو حب التعلم والتطور أو حتى كسب مزيد من المال، واستثمار مصلحة هذا الموظف النشيط أو دافعه الذاتي هو أمر مطلوب للشركة، بل يجب أن يتم ربط مصلحة الموظف بمصالح الشركة حتى تصبح جزءاً واحداً، وعلى المؤسسات رعاية النشاط الوظيفي وتطويره وتحفيزه من خلال الإجازات والمكافآت والمنح والدورات وكذلك الخطابات ورسائل الشكر، أي أن تُحوِّل يوم هذا الموظف إلى منارة حقيقية يراها بقية الموظفين ليهتدوا بها.
إن أكثر ما يقتل النشاطَ هو تلك البيئة الخاملة التي تجعل الموظف أشبه بلاعب كرة قدم يلعب مع نفسه، بل حتى من دون جمهور إنها مباراة مملّة ومُخالِفة لمبادئ اللعبة، يقترح ويرغب بالتطوير وينفذ أعماله قبل الآخرين، ولكنه يجد أن عمله مكبَّل كونه مبنياً على خطوات أخرى من بقية الأعضاء وكأنه مربوط بصخرة، الأمر يُشبِه ما لو أراد لاعب كرة القدم في المثال السابق أن يمرر الكرة لشخص يقف في مكانه وفوق ذلك لا يرغب حتى بالتسديد نحو المرمى! ماذا على الموظف النشيط أن يفعل؟ هل يقوم بكل الأدوار ويلعب منفرداً؟ بعض الشركات لا تسمح للموظف النشيط أن يلعب منفرداً وعليه أن يراعي بقية الخطوات والإجراءات والمسائل والقوانين المكتوبة؛ لتأتي الكارثة ويعود صاحبنا إلى مكتبه مصفوعاً بصفعة سيتلقى مثلها ما دام على هذه الحال.
في البيئات الخاملة والرتيبة نحن أمام أن يتحول الموظف إلى موظف كسول آخر يدخل في دوامة الروتين أو أن يقوم بتحدٍّ مَا يُغيِّر فيه من عقلية الشركة ولكن هذا التحدِّي قد يكلفه الكثيرَ، على أي حال المحاولة مطلوبة والأمر يستحق ولكن ليس على حساب نفسيته، ففي حال كنتَ ترى نفسك موظفاً يبذل الكثير من الجهد خلال يومه ليذهب هذا النشاط مع الريح فأعتقد أنه يجب عليك أن تضع نُصْب عينيك "محاولة تحريك الفيل" مما يزعزع الرتابة والروتين داخل الشركة، ولكن عليك أن تعرف تماماً أن هذا لا يجب أن يكون على حساب نفسيتك، أي لو وجدتَ أن الأمر أكبر من قدراتك أو فوق طاقتك فأنصحك بالمغادرة دون تردُّد، وابدأ يومك في مكان آخر يستحق المبادرة.