لم يبرز الهجوم الروسي على أوكرانيا من محض مصادفة وأجواء صافية، بل جرى تأجيج المواقف لسنوات في مستنقع حقيقي من العَدَاء الروسي المتصاعد.
وبينما أكتب هذا المقال كانت روسيا تهاجم أوكرانيا على جبهات متعددة.
وقد أعربت العديد من الدول، ولا سيما فيما يتعلق بالنفوذ الجيوسياسي المزعوم، وهي الولايات المتحدة، وألمانيا وفرنسا (صاحبتا الكلمة الفصل في الاتحاد الأوروبي)، عن صدمتها وغضبها من قرار روسيا -باستخدام مصطلحات الدعاية السخيفة لبوتين لتبرير الهجوم- لمهاجمة أوكرانيا ونزع سلاحها. وقد أدى ذلك إلى سلسلة من العقوبات التي تستهدف عدة جوانب من الدولة الروسية والمجتمع المدني والمؤسسات الخاصة وتعامُلاتها المالية في جميع أنحاء العالم.
من الواضح أن هذا هو “العالم الذي يحاسب روسيا” كما قال بايدن. فقد انتشرت نكتة من الكوميديا السوداء على وسائل التواصل الاجتماعي الأوكرانية، مفادها أنه سوف يتم معاقبة الروس وهم في طريقهم إلى كييف. وبقدر ما قد يتشدّق الاتحاد الأوروبي الآنَ بشأن إجرام بوتين، فإنه يظل منضمّاً بشكل فعّال إلى الدولة الروسية واقتصادها، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالطاقة. الحقيقة هي أن مثل هذه العقوبات لن تكون كافية لإنقاذ أوكرانيا.
وهذا شيء فهمه الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي قبل أيام عندما أشار إلى أن مثل هذه العقوبات، إذا كانت حقاً تعتقد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنها ستواجه عدوان بوتين العسكري، فكان من الواجب وضعها موضع التنفيذ قبل بَدْء الهجوم.
كان يجب أن يتم وضعها في التنفيذ منذ سنوات لتكون مناسبة. لم يأتِ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا من أجواء صافية، بل تم تأجيج الوضع لسنوات في مستنقع حقيقي من العدوان الروسي المتصاعد الموجه نحو أجندة أيديولوجية مميزة لتكريس نفسها كقوة رئيسية مهيمنة للِّيبرالية العالمية.
منذ الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الكارثية التي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب، ظهر بوتين على الساحة برسالة تحدٍّ بلا خجل للعالم الديمقراطي الليبرالي، ولكن على عكس دعاة الخطابات الحاليين لواشنطن وبروكسل، فقد وضع بوتين هذه الأيديولوجية موضع التنفيذ.
وسائل الإعلام الغربية نفسها التي تعارض في الغالب وبحق هجوم بوتين على أوكرانيا للقضاء على سيادتها وتقرير المصير، نادراً ما تذكر أن روسيا بوتين لا تزال تتدخل بعنف لصالح الطاغية بشار الأسد ضد ما كان ثورة شعبية لتقرير المصير والحرية والاعتراف بحقوق الشعب.
منذ عام 2015، كانت روسيا طرفاً في ما قد يصفه الكثيرون بأنه إبادة جماعية ضد السوريين، وارتكاب عدد لا يُحصَى من الجرائم ضد الإنسانية. ومن غير المحتمَل أن يكون العالم قد نسي التدخل الروسي الوحشي القاتل في سورية، وهو التدخل الذي شهد تسطيح مناظر مدن سورية بأكملها واستهدافاً متعمداً للمدنيين في منازلهم ومتاجرهم ومستشفياتهم ومدارسهم.
لقد أدّى الإرهاب الذي أمطرته القوات الجوية الروسية على السوريين إلى تطهير ملايين المدنيين، مما أثار، كما قد يقول البعض عن قصد، “أزمة لاجئين” أدّت إلى صعود أو تعزيز القوات الموالية لبوتين في جميع أنحاء القارة.
الأمر لا يتعلق بنبش القبور القديمة؛ فالوحشية الروسية في سورية تُشكّل خطراً واضحاً وقائماً، حيث يمكن أن يحدث في أي وقت مزيد من التصعيد الذي بدأه الأسد وروسيا، خاصة في محافظة إدلب الأخيرة التي يسيطر عليها الثوار.
هذه ليست حالة رغبة مني في استحضار سورية في كل شيء، بل هي ملاحظة قاتمة لحقيقة أن التدخل الروسي في سورية والتدخل الروسي في أوكرانيا قد تم تجميعهما معاً برغبة بوتين في استخدام القوة العسكرية من أجل أن يدوس على بذور أي نيّة لتقرير المصير في دائرة نفوذ روسيا.
أدى السماح لبوتين بالإفلات من جريمة القتل بهذه السهولة في سورية إلى افتراض بوتين -على ما يبدو- أنه قادر على الإفلات من الهجوم على أوكرانيا.
مرة أخرى، من الصعب على المرء القيام بقفزات جيوسياسية كبيرة هنا، فقد ضمّت روسيا بالفعل بشكل غير قانوني جزءاً من أوكرانيا، مما أدى إلى مجموعة من العقوبات التي كان من المفترض أن تمنعها من المضيّ قُدُماً. ثم أشعلت حرباً بالوكالة في منطقة “دونباس” الشرقية، حيث أقامت الدول الدمية الانفصالية التي تستخدمها الآنَ كمنصات انطلاق لشنّ هجوم على بقية أوكرانيا. حتى في ظل هذه العقوبات، رأت روسيا أنه من المناسب التدخل في كازاخستان، وإنْ كان ذلك بدعوة من الحكومة الكازاخستانية.
وفي عام 2013، مع حشد روسيا للدفاع دبلوماسياً عن الأسد بعد أن قتل نظامه بالغاز أكثر من 1000 مدني في الغوطة، كيف كان ردّ فعل الغرب الديمقراطي الليبرالي؟ مع التهدئة السخيفة لاتفاقية “كيري – لافروف”، التي خدمت فقط الضوء الأخضر للإبادة الجماعية وأدت في النهاية، في غضون عامين، إلى تدخُّل روسي واسع النطاق لتدمير المقاومة الشرسة لقوى المعارضة بشكل حاسم.
لم تُخفِ روسيا أجندتها، فقد تصرفت بشكل حاسم في كل خُطوة وفقاً لمصالحها الأيديولوجية، هذه المصالح معادية بشكل لا يمكن إصلاحه للديمقراطية الليبرالية، سواء كانت في دمشق أو كييف أو جورجيا ومَن يدري إلى أين بعد ذلك؟ ربما إستونيا؟ ربما ليتوانيا؟ وقد استحضر بوتين في خطابه الذي برر الهجوم على أوكرانيا، كما فعل في الماضي، أمجاد الإمبراطوريتين القيصرية والسوفياتية وأعرب عن أسفه لتفكُّكهما.
لم تفعل العقوبات شيئاً لوقف روسيا، ونظراً لخطورة الجرائم الروسية في سورية وفظاعة أفعالها في أوكرانيا، أعتقد أنها أصبحت في الواقع وسيلة للعالم الديمقراطي الليبرالي المنقسم والضعيف لفعل شيء دون فعل أي شيء، يتصرفون كما لو كانوا يدافعون عن حلفائهم الديمقراطيين بينما يتخلون عنهم لأهواء المغامرات الاستبدادية العنيفة.
اليوم ليس فقط أَحْلَك يوم لملايين الأوكرانيين الذين يطمحون، مثل السوريين من قبلهم، لمجرد الحرية الأساسية وتقرير المصير، ولكن لأولئك الذين يتطلعون إلى الحرية عالمياً. من شِبه المؤكد أن تنتصر روسيا في أوكرانيا، وبينما أشك في أن روسيا ستتوقف عند هذا الحد، إذا جاز التعبير، فإن بوتين ليس القرش الوحيد الذي يدور حول سفينة الديمقراطية الليبرالية المنكوبة بشكل متزايد في العالم.