حازت قضيّة وجود السوريين في تركيا خلال الأشهر الأخيرة اهتماماً بالغاً لدى الشارع التركي، في ظل تركيز غير مسبوق من القوى السياسية التركية والمسؤولين الحكوميين على هذا الملف.
ومن الواضح أنّ هناك تغيُّراً قد طرأ على الرأي العامّ التركي تِجاه قضيّة إقامة السوريين على الأراضي التركية؛ حيث أظهرت استطلاعات رأي أنّ شريحة واسعة من الشعب التركي تعتبر مسألة الوجود السوري في بلادهم هي المشكلة الأولى، في حين تأتي الأزمة الاقتصادية في المرتبة الثانية.
يُمكن للسوريين الذين دخلوا إلى تركيا في الفترة الممتدة بين عامَيْ 2011 و2013 ملاحظة حجم التعاطف الشعبي معهم آنذاك، والذي يرجع إلى أسباب عديدة منها حداثة أمد الأزمة، واهتمام الإعلام التركي والعالمي آنذاك بالقضية وتسليط الضوء على ممارسات النظام السوري وحلفائه بحق المدنيين. كان الرأي العامّ يتعاطف مع الوافدين السوريين باعتبارهم “مظلومين” تجب “مناصرتهم”، عدا أنّ الحزب الحاكم أسّس خطابه على شعار “المهاجرين والأنصار” الذي يعكس إدراك أهمية هذه القيمة لدى نسبة واسعة من الشعب التركي.
ومع طول أمد الأزمة، وانخراط السوريين في سوق العمل، وتأسيسهم شركات ومشاريع صناعية وتجارية، بدأت النظرة تتغير من “مناصرة مظلومين” إلى “مشاركة بالوطن”، في ظل عدم وجود أُفق واضح لمستقبل إقامة السوريين على الأراضي التركية.
ومما زاد الأمرَ تعقيداً تجميدُ الصراع في سورية بين النظام والمعارضة والفصائل العسكرية منذ مطلع عام 2022، ما أعطى انطباعاً خاطئاً لدى الكثير من الأتراك بأن الحرب انتهت وأن سورية أصبحت آمِنة، وهو تصوُّر عملت أطراف معارضة على ترسيخه بشكل متعمَّد.
العامل الثقافي
لا يُمكن التغاضي عن بعض الاختلافات الثقافية بين الشعبين السوري والتركي، لا سيما ما يخصّ اللغة ورموز الدولة وطبيعة الاستهلاك والعيش، وغيرها من المواضيع.
فعليّاً، ساهم الاختلاف الثقافي في الوقوف حائلاً أمام اندماج شرائح عديد من السوريين مع المجتمع التركي، حتى شكّل اللاجئون والمجتمع المضيف صورة مسبقة عن نمط حياة الآخر؛ فالمجتمع التركي مثلاً يعتقد أنّ السوريين لا يريدون تعلُّم اللغة رغم مرور سنوات على وصولهم إلى تركيا، بينما يعتقد اللاجئون أنّهم سيواجهون صعوبة في فهم طريقة حياة الشعب التركي وأنّ هناك رفضاً مسبقاً للاحتكاك بهم.
على أيّ حال، كرّس هذه الانطباعات عوامل أخرى خلال السنوات الماضية، لا سيما الخطاب الإعلامي وغياب برامج اندماج فعّالة على غرار تلك التي يخضع لها اللاجئون في أوروبا. فلا يُمكن مثلاً، اختصار الاندماج بمجرّد دورات لتعريف اللاجئين بالقوانين وأهمية بطاقة الحماية المؤقتة وأهمية تحديث البيانات الشخصية وما إلى ذلك.
استثمار السوريين كورقة سياسية
مع الاقتراب تدريجياً من موعد استحقاق الانتخابات الرئاسية، والتي تُعوّل عليها المعارضة التركية لإنهاء سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة لعَقْدين كاملين، يُمكن ملاحظة تصاعُد استخدام السوريين كورقة سياسية.
محاولة الاستثمار السياسي للوجود السوري في تركيا ليست حديثة، فقد شهدت السنوات السابقة حضوراً للشأن السوري في المشهد السياسي الداخلي في تركيا، كان أبرزها في الانتخابات البلدية عام 2019.
إلا أن حضور الملفّ السوري في الانتخابات المقبلة، والتي بدأ التحضير لها منذ فترة، يبدو أنه سيكون حضوراً مختلفاً، فبعض الأطراف السياسية قررت تحويل ملف اللاجئين إلى موضوع رئيسي لحملاتها الانتخابية، بالتوازي مع ارتفاع في الخطاب اليميني المعادي للأجانب، سواء على وسائل التواصل، أو حتى من بعض الأحزاب الصغيرة التي بدأت تُهدد أحزاب المعارضة بالقضم من جمهورها إنْ لم تقم هذه الأحزاب بمجاراتها في خطابها العنصري.
ومع إعلان الرئيس التركي في أيار/ مايو 2022 عن خطّة لإعادة مليون لاجئ سوري طوعاً إلى بلادهم، بدا الأمر وكأنه تراجُع في موقف الحكومة عن دعم السوريين مراعاةً للرأي الشعبي، وهذا من شأنه أن يمنح هامشاً أكبر لتصاعُد الخطاب المعادي للاجئين السوريين في تركيا.
انتشار المغالطات عن الوجود السوري في تركيا
ساهم انتشار المغالطات عن السوريين في تركيا إلى تفاقُم النظرة الشعبية السلبية تجاههم، وقد لعبت النخب السياسية والفكرية بشكل مقصود أو غير مقصود دوراً في تكريس ذلك.
على سبيل المثال إنّ التصريحات الحكومية المتكررة حول إنفاق مبالغ طائلة على السوريين دون الإشارة إلى مصدرها، وأنها هبات من المانحين الدوليين، كرّست قناعة لدى الشعب التركي بأن المساعدات المالية والطبية والغذائية التي تُقدَّم للسوريين، يتم تمويلها من عائدات البلاد، وبالتالي حرمان الأتراك منها، وقد استثمرت النخب السياسية المحسوبة على المعارضة التركية هذا الخطاب بشكل جيد وعزَّزت تلك الصورة غير الصحيحة.
وتعمل بعض النخب السياسية التركية على نشر أرقام غير دقيقة عن عدد ولادات السوريين في تركيا، وتقوم بتضخيم الأرقام في محاولة لإخافة المجتمع التركي من قضية التغيير الديموغرافي. بالمقابل يقوم بعض قادة الرأي من السوريين باستخدام خطاب غير واقعي، يتجاوزون فيه توصيف السوريين في تركيا وأنهم تحت بند “الحماية المؤقتة”، ويحاولون إلحاق صفة اللاجئين بهم، وهذا توصيف قانوني غير دقيق، بل يمكن ملاحظة تَنامِي خطاب من قِبل بعض السوريين يطالب الحكومة بمعاملتهم، على أساس المساواة مع الأتراك، أو اتخاذ إجراءات احترازية أو قانونية ضد تصريحات أو مواقف لا ترقى لمستوى جريمة في بلد يوجد فيه هامش حرية أفضل نسبياً من دول المحيط، ممّا يزيد من مشاعر الإحباط لدى فئات السوريين لاعتقادهم بأن السلطات التركية تمتنع عن التدخل لصالحهم.
ونلاحظ تبنِّي بعض السوريين لخطاب غير واقعي في مسألة منع الحكومة التركية عطلة العيد للسوريين في بلادهم، في محاولة لقطع الطريق على استثمارها إعلامياً من طرف المعارضة وتصوير سورية أنها آمِنة، حيث جرى استنكار الخُطوة من بعض الناشطين السوريين على أساس أنه تم إلغاء حق مكتسب. لكنّ عطلة العيد في الواقع إجراء استثنائي ومن الناحية القانونية فإن دخول حامل بطاقة الحماية المؤقتة إلى بلده لأي سبب كان يُسقط عنه سبب تمتعه بالحماية.
خُلاصة القول أن تدفُّق قُرابة 3.5 مليون شخص دفعة واحدة على بلد يمتلك هُوِيَّة وثقافة مغايرة، ويُصنف اقتصاده على أنه ناشئ، إضافة إلى طول أَمَد الأزمة وغياب أُفُق الحل، ولَّد مصاعب ثقافية وإدارية واقتصادية، وأتى الاستثمار السياسي في ملف السوريين بمثابة صبّ الزيت على النار وتأجيج للقضية.
ترافق ذلك كله مع تفاقُم الأزمة الاقتصادية في تركيا، فقد أظهرت البيانات الرسمية ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى أعلى مستوى له منذ 24 عاماً، وبلغ 73.5% في أيار/ مايو 2022، متأثراً بعوامل عديدة وعلى رأسها تداعيات الحرب الأوكرانية، وارتفاع أسعار النفط.
أيضاً، فقد انخفضت الليرة التركية في شهر حزيران/ يونيو 2022 إلى أدنى مستوى لها، وتجاوزت حاجز 17 ليرة تركية مقابل الدولار الأمريكي الواحد، مع بيانات سلبية عن العجز التجاري، فقد وصل عجز التجارة الخارجية إلى 155.2% في أيار/ مايو 2022، مع ارتفاع مؤشر مقايضات التخلف عن سداد الديون.
وتترك هذه الأرقام آثاراً سلبية على أسعار السلع وإيجارات العقارات، وهي أمور تمسّ مختلف طبقات المجتمع بشكل مباشر، لتترافق الأزمة الاقتصادية مع حملات إعلامية مستمرة تؤكد مسؤولية السوريين عن تحميل الاقتصاد التركي أعباء كبيرة، وتشير إلى تسببهم برفع إيجارات العقارات والإضرار بمصالح المواطنين الأتراك، مما يساهم في تنامي مشاعر رفض الوجود السوري في تركيا، مع أنّ الوجود السوري في تركيا ساهم في دعم الاقتصاد وليس العكس، فاستثمارات السوريين في تركيا تخطّت 10 مليارات دولار، ودعمت اليد العاملة السورية قطاعات كبيرة من الإنتاج من حيث الجودة والتغطية.
هذا لا ينفي مشاعر الاستياء التي تولّدت لدى العمال الأتراك من المنافسة غير المسبوقة التي شكّلتها اليد العاملة السورية لا سيما بسبب معدّلات الأجور المتدنّية. لكن هذه المخاوف يُمكن معالجتها لأنّ تركيا تبذل جهداً واضحاً لزيادة معدّلات الإنتاج المحلّي، والذي تطلّب تضافُراً وتعاوُناً بين اليد العاملة السورية والتركية على حدّ سواءً وليس العكس.
وفي ظل الواقع الصعب، يبدو أنّ الحلول المتاحة تتركز على تطوير أداء منظمات المجتمع المدني السوري، لتقوم بدور همزة وصل بين السوريين ومختلف الأطراف السياسية في البلاد.
أيضاً، من المهم أن تقوم المؤسسات الإعلامية السورية المنتشرة على الأراضي التركية بتعديل سياساتها، وتخصيص جزء من جهودها لمخاطبة المجتمع التركي، ونشر الحقائق المتعلقة بالسوريين وواقع البلاد، وعدم التركيز فقط على نقد الممارسات العنصرية ومخاطبة السوريين، فمن الواضح أن سلوك وسائل الإعلام السورية يساهم في بعض الأحيان بشحن السوريين أكثر، بانتظار حلول مستدامة من قَبِيل تأمين المزيد من الأراضي السورية لتصبح صالحة لعودة السوريين إلى مناطقهم التي غادروا منها، أو الحصول على لجوء قانوني في دول أخرى تتيح هذا الخيار.