يبدو أن التناقُضات في الشرق الأوسط بلغت حدّاً لم يكن من الممكن معه الاستمرار وفقاً للصيغ السابقة وخرائط التحالفات التي صمد بعضها طويلاً، وتهاوى بعضها الآخر تحت تأثير تنافُر المصالح واختلاف المشاريع والتصوُّرات، سواء في ما يتعلق بأمن المنطقة أو حتى في أنظمة الحكم واتجاهاتها.
وقد كانت سنوات الربيع العربي الدامية فترة كافية لإنضاج مثل هذا التحوُّل الذي لا بُدّ منه، ولا بُدّ أيضاً من البحث عن كيفية تجسيده على أرض الواقع.
أبرز علامات المرحلة الجديدة طيّ الخلافات الإقليمية، وإطفاء الحرائق المشتعلة في العلاقات البَيْنيّة بين الدول العربية ذاتها من جهة، وبين الدول العربية ونطاقها الحيوي الصديق المتمثل بتركيا، والالتفات بعد ذلك كله لمعالجة مسألة الجار الخطر إيران.
يطرح الأردن مشروع الناتو العربي، ولذلك إشكالاته الوقت الراهن، كما له ضروراته في المرحلة القادمة، ليست الفكرة جديدة، فهي أساساً مشروع أمريكي يعود إلى زمن الحرب الباردة، لم تتمكن من تحقيقه آنذاك، فهل انتفت أسباب عدم نجاحه القديمة واستجدت عوامل تجعل من الممكن له أن يرى النور؟
الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما هو مَن أعاد النظر في احتمال تشكيل ناتو عربي، لكن لنتخيل كيف كان شكل ذلك الحلف الذي سيشرف على تأسيسه أكثر رئيس أمريكي متهم بالتعاطف مع إيران، وهو الذي قرّب من إدارته فريقاً متخصصاً فارسياً مهمته الإشراف على كتابة الاتفاق النووي مع طهران، لاعتبارات أقلها أن ”التفاهم الأمريكي مع إيران أمرٌ لا مفرّ منه مهما كان النظام الذي يحكمها“، وهي القاعدة التي وضعها المفكر تريتا بارسي.
وما دام الأمر كذلك في عقل أوباما، فمن هو العدو المستهدَف والتهديد الذي يجب أن يتشكّل من أجله ناتو عربي إذاً؟ الإجابة مباشرة ليست إسرائيل بالتأكيد، إنما هو الإرهاب ”الإسلاموي“. أي أن إدارة أوباما لم تكن ترى في كل ما فعلته إيران واستباحتها لسورية ولبنان والعراق واليمن أي تهديد يماثل تهديد “داعش” أو “القاعدة”.
ترامب نفسه أعاد طرح الفكرة، وظهر على السطح اسم ”ميسا“ وهو اختصار لتحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي، والذي يضم دولاً عربية مع إسرائيل، وهذه المرّة كانت إيران هي المستهدَفة.
اليوم اختلفت المعادلة، فقد انتهت “داعش” وباتت فلولاً وذئاباً منفردة، و”القاعدة” تكاد تصبح تنظيماً سياسياً بعد التحولات في أفغانستان وعودة طالبان كنظام حكم شِبه معترَف به دولياً، مع ما يطرأ من تغييرات جوهرية في فرعها السابق ”جبهة النصرة“ في إدلب.
وقد أشارت “وول ستريت جورنال” إلى أن خبراء مسؤولين عسكريين أمريكيين ”التقوا مع نظرائهم في كل من إسرائيل والأردن ومصر وعدة دول خليجية. ونسبت الصحيفة إلى مصدر مطلع القول إن الاجتماع عُقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، وتناول استكشاف سُبل التنسيق ضد تنامي قدرات إيران الصاروخية وبرنامجها للطائرات المسيَّرة“.
الإعلام الإسرائيلي استقبل ذلك التسريب بالترحاب وذكّر العرب من جديد بالناتو العربي الذي قد يناقش في زيارة بايدن إلى جدة منتصف الشهر الجاري.
هكذا تحالُفات قد تنشأ بين دول وكيانات مستقرة، فأين يمكن أن يكون مكان المعارضة السورية على الطاولة وهي إحدى الجهات المستفيدة من ناتو عربي، والمتضررة أكثر من غيرها من الخطر الإيراني؟
إن مواصلة تنظيم الجيش الوطني وإنهاء الحالة الفصائلية في المناطق المحررة أول خطوة من أجل الوصول إلى جهة يمكن الحديث معها لتكون شريكاً في الناتو العربي، إنْ تشكّل، والمعارضة السورية العسكرية والسياسية معاً بتنسيقها مع تركيا يمكن أن تكون حلقة وصل مهمة وحسّاسة وغير مباشرة بين دول الناتو العربي وواحدة من أكبر مؤسسي الناتو الأكبر وصاحبة واحد من أكبر جيوشها.
الحاجة الأمريكية للتصدي لروسيا بعد غزوها أوكرانيا تجعل من المعارضة رقماً إيجابياً في هكذا حسابات، حتى دور تركيا في أزمة الطاقة يمكنه أن يصبّ في صالح السوريين، فيما لو أحسنوا التحرّك على رقعة الشطرنج الدولية، واقتراب الشتاء وزيادة الطلب على الوقود للتدفئة، سيكون لهما انعكاساتهما على القرارات السياسية الدولية دون شك.
وعليه فإن الكرة الآن -ومن جديد- في ملعب المعارضة السورية إنْ أرادت أن تجني ثمار ما يتشابك من خيوط، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالبقاء مراوحةً في المكان ولا يُتوقَّع له أن يحدث من تِلقاء ذاته.
صحيح أن الإشارات التي بدرت عن مؤسسات المعارضة حيال الدول العربية التي جفّت مياه العلاقات معها خلال الأعوام السابقة، كانت إيجابية، إلا أنها غير كافية، ويتوجب التوجُّه بخطاب جديد مبادِر وخَلّاق للدخول على خط التحوُّلات؛ لأن هناك ما يحاول اللحاق بالجديد من جهة، ولن يَدَع الدول العربية تتركه وحيداً، وأعني نظام الأسد، وهناك أيضاً مَن يريد للمشاريع الجديدة أن لا تكون تلك القطعة السورية الضرورية ناقصة فيها لاعتبارات فوق الاعتبارات ولضرورات فوق الضرورات.