المآلات التي انتهى إليها اليسار العربي تكشف عن عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي أصبح يعاني منها هذه اليسار منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وحتى الآن. لقد لجأت هذه الأحزاب بعد التداعيات الكبيرة التي خلفها هذا الانهيار المفاجئ إلى محاولة القيام بعمليات تجميل تجلت في تغيير أسماء بعضها وتعديل بعض منطلقاتها دون أن تقوم بمراجعة نقدية شاملة علمية وعميقة لمنظومة أفكارها وتوجهاتها الفكرية والسياسية، ما جعلها تعاني من أزمة بنيوية على الصعيد السياسي والفكري والتنظيمي تجلَّى في تراجُع تأثيرها في الشارع وتخلي العديد من أعضائها عنها، لكن المثال الأوضح على هذه الأزمة ظهر في موقف هذه الأحزاب المناهض لثورات الربيع العربي التي اتهمتها بأنها من صنع تيارات الإسلام السياسي من أجل الوصول إلى السلطة، ما أضاف إلى أزمتها الفكرية والسياسية أزمة أخلاقية ساهمت في زيادة عزلتها بسبب ربط مصيرها بمصير أنظمة الاستبداد العربي المسؤولة قبل غيرها عن تفجُّر هذه الانتفاضات الشعبية.
السؤال الذي يطرح بعد مواصلة هذه الأحزاب عملية الهروب إلى الأمام هل فقدت هذه الأحزاب مشروعية وجودها التاريخي والسياسي لأسباب تتعلق بعجز منظومتها الأيديولوجية والسياسية عن التطور والتجديد بعد أن تكلّست
والحقيقة أن ضَعْف هذا التأثير لم يكن وليد هذه الثورات بل كان سابقاً عليه ما جعل تيارات الإسلام السياسي المدعومة من أكثر جهة عربية وإقليمية تسعى إلى ملء هذا الفراغ الذي خلفه تراجع حضور هذه الأحزاب وضعف قدرتها على تطوير خطابها السياسي والفكري في ضوء غياب المراجعة النقدية لتجربة عملها السياسي خاصة على مستوى التحالفات التي كانت تقيمها مع أنظمة الاستبداد العربي. ولكي ندرك حجم التناقض السياسي الذي باتت نعاني منه هذه الأحزاب أنها تحولت إلى حليف لأنظمة الاستبداد التي قامت ثورات الربيع العربي من أجل إسقاطها وبناء دولة المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية، ما يكشف عن زيف شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية التي كانت تطرحها. وقد بلغ هذا التناقض حدّه اللامعقول في تحالفها مع أنظمة وأحزاب إسلامية كالنظام الإيراني وحزب الله اللبناني وحركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي بذريعة المقاومة ومواجهة المشروع الصهيوني، وكأن ثَمة مفاضلة بين حزب سياسي ديني وحزب آخر أيديولوجيّاً، أو بين قوى عقائدية ومذهبية وأخرى في هذا البلد أو ذاك تستمد شرعيتها من التفويض الإلهي لها.
إن هذه المفارقة العجيبة في السلوك السياسي لأحزاب اليسار العربي تكشف عن حجم المعضلة السياسية والأخلاقية التي أصبحت تواجهها، وتحاول مواجهتها عَبْر سياسة الهروب إلى الأمام بدلاً من مواجهة الواقع ومحاولة فهم أسباب فشلها السياسي التي أدت إلى صعود هذه التيارات التي استغلت هذا الفشل لتكريس وجودها واستقطاب التأييد الشعبي لصالح مشروعها السياسي. والسؤال الذي يطرح بعد مواصلة هذه الأحزاب عملية الهروب إلى الأمام هل فقدت هذه الأحزاب مشروعية وجودها التاريخي والسياسي لأسباب تتعلق بعجز منظومتها الأيديولوجية والسياسية عن التطور والتجديد بعد أن تكلّست، الأمر الذي جعلها بعيدة كل البعد عن استيعاب حاجات الواقع العربي قي ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والتربوي الذي كان يشهده الواقع بسبب سياسات الفساد والإفساد والقمع التي تمارسها أنظمة الاستبداد الحليفة لها ونهبها لثروات البلاد إلى جانب إلغاء الحياة السياسية وعسكرة السلطة. إن ما يبرر طرح سؤالٍ كهذا أن اليسار العالمي أصبح يواجه نفس المأزق الفكري والسياسي وهو ما يتجلى في ضعف تأييده وتمثيله في الحياة الديمقراطية الغربية، بل إن بعض هذه الأحزاب التي أوصلتها صناديق الاقتراع إلى السلطة كما في العديد من دول أمريكا اللاتينية تحولت إلى ديكتاتوريات تتحالف مع أنظمة الاستبداد الديني والسياسي العربية وإيران، ما يدل على حقيقة المأزق السياسي والفكري الذي تعيشه هذه الديكتاتوريات للحفاظ على سلطتها على الرغم من النتائج الكارثية لسياساتها على الاقتصاد والاجتماع والتنمية في تلك البلدان التي تحول بعضها مثل فنزويلا من دولة مصدرة للنفط إلى دولة مستوردة له، نتيجة الفساد المستشري وسوء الإدارة وغياب دور مؤسسات الرقابة والمحاسبة.
في سبعينيات القرن الماضي ظهرت موجة جديدة من أحزاب اليسار العربي قدمت نفسها بوصفها بديلاً فكرياً وسياسياً لأحزاب اليسار التقليدية التي رأت أنها فشلت في تطوير برامجها السياسية بسبب تبعيتها للاتحاد السوفياتي، لكن اللافت أنها كانت كَسِواها من أحزاب اليسار العربي ظلت أحزابَ نخبةٍ على الرغم من تبنيها لقضايا الطبقة العاملة والاشتراكية حتى أن بعض هذه الأحزاب كان يتندر أن لديها عضواً واحداً من هذه الطبقة العاملة. إن هذه المفارقة جعلت هذه الأحزاب لا تختلف عن سواها سوى في بعض النقد الذي وجّهته لسياسات أحزاب اليسار وتبعيتها، ولذلك لم يكن موقف هذه الأحزاب من ثورات الربيع العربي يختلف كثيراً عن مواقف الأحزاب اليسارية التقليدية، إذ سُرْعان ما حدت التصدع والانقسام في صفوف هذه الأحزاب نتيجة الخلاف حول الموقف من هذه الثورات على الرغم من أنها عانت الأخرى من قمع النظام الديكتاتوري الذي ظل الكثير من أعضائها يدافع عنه لنفس الحُجَج والذرائع التي كانت تتلطَّى وراءها أحزاب اليسار التقليدي. وهكذا كشفت هذه الأحزاب مرة أخرى عن انفصالها عن الواقع وعن أنها لم تكن رغم نقدها العنيف لتلك الأحزاب سوى إعادة إنتاج لنفس النهج والممارسة السياسية التي قدمت نفسها بديلاً عنها.