ليست عمليات التهجير القسري التي مارسها النظام في العقد الأخير ببعيدة عن الحالة السورية العامة منذ وصل نظام البعث الحاكم إلى السلطة بقوة السلاح في ستينيات القرن الفائت، إلا أن نسختها المعدّلة والأكثر شراسة وإمعاناً في التنكيل بأبناء الشعب السوري -كمّاً وكَيْفاً- جاءت في عهد الأسد الأب ثم الابن.
فقد تعرّضت سورية منذ عقود خلت إلى عملية تفريغ ممنهج وقصدي للأدمغة والكفاءات، وكذلك لقوى الاقتصاد البرجوازية، من خلال التضييق على حرية حركة الأفكار والأموال في الداخل، بل ومحاولة السيطرة والاستيلاء عليها، ودفع مَن نجا منها للهجرة إلى الخارج. وإثر اندلاع الثورة السورية الماجدة في العام 2011 ترافقت عمليات التهجير المنظّم تلك بتغيير ديموغرافي متلازم مع إفراغ الأرض من أهلها السوريين ثم إشغالها بالغرباء من المكونات الطائفية والميليشيات العقائدية "المرادفة" لجيش بشار الأسد، وذلك إمعاناً في شقّ لُحمة النسيج الاجتماعي السوري وإصراراً على تفكيك الحاضنة الأهلية للثورة من خلال شرذمة دعائمها الشعبية الأساس.
على امتداد التاريخ السوري المعاصر، شكّلت الطبقة السورية الوسطى الحامل الرئيس للحراك السياسي والثقافي والاقتصادي في سورية ما قبل النظام الاشتراكي الأسدي، وذلك في ظل نظام للسوق شِبه مفتوح، وحرية تداول رأس المال المُعْلَن والمُقَونن. إلا أن تلك القوى والفعّاليات السورية غادرت وانتشرت في العالم، وحُرمت سورية من ثروة العقول ورأس المال في آن، ما سهّل السبل لمغتصبي السلطة في الانقضاض على مفاصل الدولة وإعادة تشكيلها على قياس مصالحهم الخاصة.
دفعت السياسات الشمولية والانفرادية لنظام العائلة الحاكم المجتمع السوري إلى حافّة المواجهات، وأودت بمقدّراته إلى الانزلاق المتسارع في دوامات الفساد والفوضى والإفقار والمديونية، وكانت سياسة هوجاء باطشة منتهِكة لأبسط حقوق المواطنة، سياسات حوّلت سورية المدنية إلى ثكنة عسكرية ممتدّة محكومة عرفياً بشرعة الطوارئ على امتداد أربعين عاماً من حكم الأسدين.
آثر النظام الأُسْرَوي الاستبدادي سياسات الانعزال والتهميش والترهيب والقمع وإشاعة الفرقة والدسائس بين أفراد الشعب الواحد، على الشروع في مصالحة وطنية شاملة هي صِمام الأمان والقوة الوحيدة للوطن في مواجهة تحديات العصر. ونحن قد عاصرنا دوامة هذا القمع والعسف والنهب المنظّم وغياب أية قيمة للحريات الفردية والعامة، سنحتاج إلى زمن ليس بالمقتضب وإلى عمل موصول من أجل التأسيس لثقافة تنويرية مدنية تعلي من شأن الإنسان/ الفرد أولاً، وتسعى لنيل حقوقه وحريته كاملة ليكون شريكاً فاعلاً في صياغة مستقبل مجتمعه ووطنه بغض النظر عن ديانته أو قوميته أو طائفته.
من هنا يغدو التغيير الجذري للنظام، من قاعدته إلى رأس هرمه، أقرب إلى مداخلة إسعافية ملحّة وفعل حتمي لإنقاذ سورية وشعبها من دوامات جرّها إليها نظام تمرّس في إقصاء الوطنيين والنزهاء السوريين بزجّهم في السجون، أو نفيهم بدفعهم إلى الهجرة قسراً أو اختياراً، أو اللجوء إلى تصفيتهم جسدياً من أجل الاستفراد بالبلاد والقرار والخيرات بلا حسيب أو رقيب، ومعتقلات الأسد وأقبية مخابراته ليست سوى الصندوق الأسود الشاهد على فاشية هذا النظام.
التغيير الجذري في سورية يحتاج إلى بديل رافع للمرحلة القادمة يتلخّص في نهج سياسي مدني جديد يدعو إلى تحرير الإنسان والفكر وتفعيل الحرّيات الفرديّة والجماعيّة وتداوُل السلطة وإحياء مفهوم المواطنة في الحق والواجب ونبذ التمييز العرقي والطائفي والمذهبي وتطبيق التعددية السياسية وتمكين المرأة وفصل السلطات، نهجاً متكاملاً يصونه دستور جديد يستجيب لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ويضمن الشراكة المتساوية لتراب الوطن بين مكوّنات الشعب السوري ويعزّز مبدأ لامركزية الدولة والإدارة وينظّم الاختلاف والحقوق والواجبات المتبادَلة ويفصل السياسة عن الدين.
النهج السياسي البديل سيكون بمثابة الحامل الفعلي لمشروع تحديث اقتصادي بعيد المدى يطالب التغيير في البِنى التحتية وهيكلية المؤسسات وتَمَوْضُع رأس المال وتوزيع الثروة بشكل عادل بين فئات المجتمع وبين المناطق الجغرافية دون استئثار فئة أو منطقة بخيرات الوطن.
لا بد لهذا النهج السياسي من رافعيْنِ أحدهما أمني والثاني عسكري. فالأمني يقوم على ضبط الاستقرار وإيقاع التعايش بعد طول اقتتال وتأمين الحماية للسكان وجمع السلاح المنفلت، بينما يُشكِّل العسكري الغطاء الضامن لوحدة البلاد وحمايتها وترتيب خروج الميليشيات والجيوش الأجنبية من كامل الأرض السورية وتأمين حدودها من جديد.
هذه "الترويكا السورية" التي تتشكّل من السياسي والأمني والعسكري، لا بد لها من حامل مالي مستقل يكون على شكل مجموعة مالية داعمة تنطلق تحت مسمّى "صندوق النقد السوري" Syrian Monetary Fund, SMF . هذه المؤسسة ستخضع لمواصفات وشروط المؤسسات المالية العالمية من حيث الشفافية والمحاسبة المالية من قِبل مجموعة محاسبين ماليين مستقلّين وتموّل من المال السوري الخالص والحرّ من قِبل السوريين في العالم من أجل دعم الثورة ومتطلباتها الحالية، ولاحقاً المساهمة الفاعلة لأعضائها المتبرعين في عملية إعادة إعمار سورية بعد استقلالها من الاستعمارين الداخلي والخارجي في آنٍ.
ولن ننسى أن نجاح أداء "الترويكا" يتوقّف على استيعابها لحتمية التوجّه الديمقراطي المنشود في سورية وإعادة تأسيس مبدأ المواطنة التي يستوي فيها أبناء الوطن الواحد مهما تغايرت انتماءاتهم في الحق والواجب في ظل دولة القانون. وعليه لا بد من حالة ثقافية تعدُّدية جديدة تحتفي بالموزاييك الاثني الذي يقوم مقام اللُّحمة من النسيج السوري من أعراق غير عربية وقوميات تشكل مجتمعةً عُمقاً أنتروبولوجياً ومحصِّلة للحضارات التي حطّت في سورية عَبْر التاريخ.
صياغة "الترويكا السورية" في هذه المرحلة قد تكون إنجازاً نوعياً في مسيرة التحرّر السورية التي دُفعت فيها أغلى الأثمان البشرية والمادية. أما العمل بها فمنوط بالسوريين وحدهم بعيداً عن شمّاعة "المجتمع الدولي" الذي نعلّق عليها باستمرار أسباب فشلنا.