نداء بوست- معاذ الناصر
أتاحت جامعة “ماردين” للطلبة العرب -وغالبيتهم من السوريين- الدراسة باللغة العربية في العديد من الفروع، كـ(العلوم السياسية والعلاقات الدبلوماسية، وإدارة الأعمال، وعلم الاجتماع، والتاريخ) ولاحقاً في كلية التمريض ومعهد الإسعافات الأولية والطوارئ، من خلال تأسيسها لقسم اللغة العربية في الجامعة في عام 2015.
واستقطبت الجامعة المؤسسة في عام 2007 الكثير من الطلبة السوريين ومن مختلف الأعمار، بمتوسط 350 طالباً في العام الدراسي الواحد، أعفتهم الجامعة في البداية من تقديم شهادات “yös” المطلوبة من الطلبة الأجانب كشرط الدخول في الجامعات التركية.
ومكَّنت السوريين الذين أجبرتهم آلة النظام الحربية على تَرْك مقاعدهم الدراسية في سورية، من متابعة تحصيلهم العلمي، وتحقيق حلمهم في نَيْل الشهادة الجامعية، في جامعة تتفوق على الجامعات السورية في التصنيف العالمي، وفي ظل ظروف لا تسمح لهم بالدراسة باللغة التركية.
هيثم السليمان، طالب على أبواب التخرج من فرع علم الاجتماع، سنحت له الفرصة لدخول هذا الفرع، بعد أن خسر مقعده في كلية الأدب العربي بسورية، وهو في السنة الأخيرة، يقول: “في العام الذي التحقت فيه بالجامعة وكان 2018، وصل عدد الطلبة الذين تجاوزوا السابعة والعشرين من العمر إلى النصف تقريباً، وهذا يعني أنهم كانوا في سن الدراسة الجامعية أثناء انطلاق الثورة السورية، وخسروا مقاعدهم نتيجة الملاحقات الأمنية أو خوفاً من الموت تحت القصف، حيث إن غالبيتهم من الشريحة المنخرطة في صفوف الثورة، فشكلت لهم جامعة “ماردين” الفرصة الأخيرة لمتابعة التحصيل العلمي، نتيجة قبولها للدراسة باللغة العربية، ولانخفاض رسومها مقارنة بالجامعات الأخرى”.
وفي لقاء مع الدكتور عبد الناصر الجاسم، الأستاذ في إدارة الأعمال بجامعة “ماردين”، للحديث عن تجربة القسم العربي قال: “التجربة فريدة ومميَّزة، وتمثل نتاجَ المسؤولية الاجتماعية والإنسانية للتعليم العالي في تركيا، واستجابةً لواقع السوريين المنقطعين عن دراستهم، ويصعب عليهم الدراسة بلغة أخرى”. وأكد “الجاسم” على أن المناهج المعطاة، هي مناهج تركية تدرس باللغة العربية، ويُشرِف على العملية الإدارية منسِّقون من الأساتذة في فروع القسم العربي، بالتعاون مع المشرف العامّ على القسم”.
تعليم لمختلف الشرائح والأعمار:
بالإضافة للامتياز الذي قدمته الجامعة للطلبة العرب من خلال إتاحة التعلم بلغتهم، هي لم تشترط حدّاً أعلى لعمر الطالب، وسمحت للمتقدمين من مختلف الأعمار بالتحصيل العلمي. ومن هؤلاء الطلبة، الكاتب والصحافي السوري “ميخائيل سعد” المقيم في كندا، والبالغ من العمر 72 عاماً، والذي رغب في نَيْل مقعد دراسي في قسم التاريخ بالبرنامج العربي.
نشر “سعد” على حسابه في “فيس بوك” منشوراً بهذا الشأن يقول فيه: “بدأ اليوم عامي الدراسي في السنة الثانية تاريخ، في مدينة ماردين. هذا يفرض عادات جديدة في النوم والاستيقاظ والأكل والذهاب إلى المقهى، وكل ما له علاقة بحياتي اليومية. في برنامج هذا العام بعض الموادّ «أونلاين»، وأكثرها يجب حضوره فيزيائياً، يعني عليَّ العيش زمنين في وقت واحد، الفرق بينهما سبع ساعات، ولن أتكلم هنا عن الفروق الثقافية، الخُلاصة أن هذا التغير جدَّد حياتي، وأنا بطبعي لا أخاف الجديد، بل أتفاعل معه بسرعة، صحيح لن يكون تفاعلي بسرعة الشباب ولكن سأتحرك دائما حسب الرتم الذي يفرضه عمر الـ 72 لرجل غير مريض”.
في الوهلة الأولى، قد يثير مظهر الفروق العمرية مع تبايُن المستويات المعرفية داخل القاعة الواحدة استفسارات كثيرة من قِبل الملاحظ، فيما إذا كان هذا النموذج يؤثر سلباً على تحصيل شريحة عمرية ما، أو عن صعوباتٍ في التعامل يدركها الأساتذة والطلبة على حد سواء، وما إذا كانت هذه التجربة قد حققت نقاطاً إيجابية من حيث إنها استطاعت إلغاء الفوارق العمرية.
بهذا الصدد يقول الطالب هيثم: “لا تخلو التجربة من بعض السلبيات، فوجود الكمّ الكبير من الطلبة بفئة عمرية أكبر من سنّ الدراسة الفعلي، يجعلنا نلمس تبرُّم البعض من الطلبة الأصغر سِنّاً بسبب الفارق المعرفي الذي يملكه المتقدمون، والذي قد يؤثر على مَسار المحاضرات”. ويؤكد الدكتور “الجاسم” على عدم وجود صعوبات بهذا السياق ترقى لأن تكون مشكلة أو ظاهرة، وفي حال ظهورها غير الاعتيادي، يتعامل معها الكادر التعليمي بطرق مختلفة تسعى لإلغاء هذه الفوارق”.
ثقافة “ماردين” التي تُشبِه السوريين:
“ماردين” من أقدم المدن التركية المأهولة، والواقعة في جزئها الجنوبي الشرقي، على حدودها مع سورية المُقابِلة لمحافظتي “الرقة” و “الحسكة”. وهذا ما شكَّل بالإضافة إلى ظروف أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية، تداخُلاً بينها وبين محافظات شرق سورية، في المكوّنات واللغة والثقافة، حيث تتكون “ماردين” من امتزاج لثقافات العرب والكُرْد والآشوريين.
يمثل العرب في مدينة “ماردين” النصف تقريباً، وينتمي غالبيتهم إلى عشائر”المحلمية” العائدة إلى قبيلة بني شيبان من بكر بن وائل حَسَب الروايات التاريخية.
وينتمي الكُرْد إلى قبائل الأومرية والكيكان والملان والمشكينة، والتي يقيم جزء منها في شمال محافظة الحسكة السورية، كما يوجد في “ماردين” القديمة زُقاق يسمى “محلة الديرية” تقطن به عائلات هاجرت من دير الزور في القرن التاسع عشر.
وفضلاً عن ذلك، يحافظ السكان العرب في “ماردين” على لغتهم العربية ويتحدثون بلهجتهم الواضحة. ما جعلها مقاماً طيباً لعموم السوريين على مختلف انتماءاتهم الاثنية. وبهذا السياق يضيف الدكتور الجاسم “التعدُّد والتنوُّع من مزايا ماردين، التي تحكمها ثلاث لغات، وإتاحة التعلم باللغات العربية والكردية بالإضافة إلى التركية، يشكل قيمة مضافة للجامعة”.
وفي ضوء ذلك كله، نقل الكثير من العائلات السورية إقامتهم إلى مدينة “ماردين” ذات الطبيعة الجبلية والعراقة التاريخية، بالشكل الذي بات فيه ازدياد السوريين ملحوظاً، بعد عامين من افتتاح القسم العربي. ويروي لنا “مصعب الحامدي”، -وهو طالب ولاجئ سوري تعود أصوله إلى مدينة “ماردين”- دلالات عن تغيُّر الحركة السكانية في مدينة “ماردين” بعد افتتاح القسم العربي، حيث أصبح ملحوظاً ازدياد الكثافة السكانية في المدينة الصغيرة بشقَّيْها “العتيق” والجديد، بعد افتتاح البرنامج العربي بعامين، ليتجاوَز عدد العائلات السورية الـ 1500 عائلة في غضون ذلك، مع أَرِيحيَّة في التعامل قد تختلف مع مناطق تركية أخرى.