انتهت منذ أيام الجولة السابعة من جولات اللجنة الدستورية في جنيف بحضور مراقبين أمريكيين وروس وأوروبيين وعرب، وخلَصت كسابقاتها إلى فشلٍ واضحٍ في التقدّم ولو شكلياً أو من ناحية تطوير القواعد الإجرائية.
وقبل أسابيع كانت قد انتهت الجولة السابعة عشرة من محادثات أستانا، والتي عُقدت بمشاركة سوريين من طرفَي المعارضة والنظام، وخلَصت تلك الجولة إلى ما سبق وأتت به مثيلاتها من جولات مع تغييرات طفيفة في بعض الصياغات التي فرضتها التطوُّرات الأخيرة الحاصلة ما بين جولتين.
ترى نسبة وازنة من السوريين أنّ الهدف من مباحثات أستانا بالأساس، هو محاولة روسيا نزع الشرعية عن مسار جنيف الرامي لإيجاد حلٍّ أممي للمعضلة السورية، وكانت بتبنيها إستراتيجية القضم التدريجي للساحتين العسكرية والسياسية، وبتركيزها على رسم مصالح الدول المتدخلة بشكل مباشر من خلال رؤيتها، تهدف إلى الوصول حيث وصلت الآن بالضبط، أي إنقاذ نظام الأسد من السقوط عسكرياً، وتمزيق الجبهة المعارضة له، وتفتيت حلف الدول التي دعمت مطالب السوريين بالتغيير والانتقال السياسي.
بينما يرى البعض الآخر منهم أنّ أستانا هي الساحة الوحيدة التي يجري فيها تفاوُض حقيقي بين الأطراف المتنازعة، ويعزو هؤلاء السبب إلى أنّ الدول المتفاوضة هي صاحبة النفوذ الحقيقي على الأرض، وأنها قادرة ضمن شروطها هي بالذات على أن تُنفّذَ ما تتفق عليه. يرى هذا الاتجاه أنّ مفاوضات جنيف وكذلك أعمال اللجنة الدستورية ليست أكثر من ذرّ للرماد في العيون، لأنها منزوعة الأنياب باعتبارها محكومة بالتوافقات الدولية، وبعبارة أخرى لأنّ مرجعيتها القرارات الأممية، التي يمكن تعطيلها بموجب حق النقض من قبل أيٍ من الأطراف دائمة العضوية في مجلس الأمن.
ويستشهدون على ذلك بموقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي لم تعترض على مسار مباحثات أستانا، بل إنّ موقفها كان أقرب لمباركتها منه لمحاربتها.
ما يسترعي الانتباه مواظبة السوريين على الحضور الهامشي في مفاوضات أستانا، فالمحادثات تدور في الواقع حول سورية، لكنّ أطرافها الفاعلين إيرانيون وأتراك وروس، وما الحضور السوري من كلا الطرفين السوريين المتصارعين سوى شكلٍ مجرّدٍ من أية قيمة باستثناء تنفيذ المُخرجات التي تتفق عليه الأطراف المذكورة أعلاه.
بينما يبذل وفد قوى الثورة والمعارضة جهوداً حقيقية للتوصل إلى شيء جديد في مفاوضات اللجنة الدستورية، على عكس وفد النظام الذي يتفنن بإضاعة الوقت والمزاودة والتعطيل المكشوف لكل ذي عينٍ ترى.
المشكلة الرئيسة أنّ قواعد العملية السياسية التي حاكتها روسيا والولايات المتحدة تعطي النظام أوسع هامش يمكن تصوّره لممارسة هذا الدور التخريبي على حساب أرواح ودماء وعذابات السوريات والسوريين.
ركزت بعض النقاشات في أستانا على فكرة المبعوث الدولي بيدرسون المسمّاة خُطوة خُطوة، والتي يقوم جوهرها على أن يقدّم النظام تنازلات محسوبة ومحددة سلفاً، مقابل كل خطوة يقدمها المجتمع الدولي تجاهه، ومقابل كل تنازلٍ تقدّمه المعارضة له. وقد رفضت قوى الثورة والمعارضة هذه المبادرة، وكذلك رفضها النظام، وكلّ منهما له أسبابه الخاصّة، فالمعارضة رفضتها لأنها طريق جديد للتسويف ولشرعنة تعنّت النظام ورفع المسؤولية عنه وعن تعطيله جميع المسارات السياسية، والنظام رفضها لأنّه لا يريد تقديم أي تنازُل مهما كان صغيراً أو شكلياً. مع ذلك يبدو أنّ المبعوث الدولي ما زال متمسكاً بمبادرته، وهذا يدلّ على بقاء التفاهم الدولي حول سورية بين الروس والأمريكيين بالحد الأدنى على حاله رغم مرور شهر على بدء الحرب في أوكرانيا، ورغم الموقف الغربي المتشدد من روسيا بهذا الخصوص، خاصّة مسألة العقوبات التي ما زالت تُفرض والمقاطعات المستمرة للشركات والمصالح الروسية.
الحقيقة أنّه لا يمكن التنبّؤ بما يخبّئه المستقبل لنا نحن السوريين، خاصّة مع التغيّر الجذري في نظرة المجتمع الدولي لنظام بوتين الذي هو الرافعة الحقيقية لنظام الأسد.
لا نعرف بالضبط ما يمكن أن يسفر عنه الحراك الدولي ضد روسيا عقاباً لها على غزو أوكرانيا، ولا نعرف ما إذا كان النظام العالمي الراهن سينهار نتيجة ذلك أم لا، فالأمر مرتبط بشكل كبير بطريقة انتهاء الحرب وبالمفاوضات الجارية بين طرفيها الآن في إسطنبول برعاية رفيعة المستوى من الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان.
لا نعرف أيضاً أين وصلت مفاوضات الملف النووي الإيراني وما ستكون تأثيراته على قضيتنا، ولم تتضح بعدُ ملامح التحالفات الجديدة التي بدأت تظهر على السطح قبل أيام من خلال اللقاءات في النقب بين وزراء عدة دول عربية ووزير الخارجية الإسرائيلي ونظيره الأمريكي، لكننا نعرف أننا ما زلنا نلعب في الزمن الضائع هدراً من أرواحنا، ونزفاً من حاضرنا ومستقبلنا، وابتعاداً عن أملنا في الخلاص من هذا الكابوس المرعب، لأننا ببساطة لم نتحضّر جيداً لهذه المعركة الوجودية رغم مرور أحد عشر عاماً على انطلاق ثورتنا المجيدة.