"لقد قبلنا الهزيمة وتعايشنا معها"، مقولة تُنسب مقولة لأحد السياسيين اليابانيين، ردّاً على سؤالٍ حول سبب نهضة اليابان المعاصرة رغم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. لقد وقفنا مع ذواتنا وسألنا أنفسنا ماذا حصل، ولماذا، ثم انطلقنا من مبدأ عدم جواز تكرار ذلك شرطاً أساسياً للمضيّ قُدماً، وكلّ هذا يُنسب للياباني في شرح للسؤال المذكور. وبغضّ النظر عن وجود هذا السياسي الياباني من عدمه، أو صحّة نسبة هذا السؤال له أصلاً، فإنّ السؤال ذاته أكثر من مُلحّ بالنسبة لنا في سوريا. ورغم أننا لا ننكر قوّة اليابان الاقتصادية الآن وقيمتها الدولية النابعة من حضارة ضاربة الجذور ومُعاصرة زاخرة بالتقدّم والعلم والتكنولوجيا، إلا أنّ سوريا – بالنسبة لنا على الأقل كسوريين – أكثر أهمية وعراقة في التاريخ، وقد تكون في المستقبل، من اليابان ذاتها.
ليس البكاء على أطلال الماضي، ولا غناء مواويل الميجانا والعتابا تغنياً بأمويّة سوريا، أو ثقافتها العربية الإسلامية هدف هذا المقال، ولا هو جلد الذات أيضاً والندب والبكاء على ما وصلنا إليه من حال تستحقّ رغم ذلك الكثير من الحزن والألم والتأسّي. الهدف هو وضع الإصبع على الجرح لوقف النزيف أولاً، ثم شقّه حتى يظهر العظم العفن ثانياً، والبدء بالعلاج حتى ولو كان كيّاً أو بتراً ثالثاً.
لنقبل – نحن معشر الثورة – هزيمتنا. هكذا بكلّ بساطة، ولتوضيح هذه الهزيمة سأمرّ سريعاً على ما بدأنا به، وسأترك للقارئ – إن وجد من يقرأ – ما وصلنا إليه، فهو أمام ناظريه لا يحتاج لوصف. لقد بدأنا ثورتنا مثل ربيع دمشق سلميين، ورفعنا الورود وقدّمنا المياه الباردة لجيشنا الباسل ظنّاً منا أنه سينحاز لنا، أو هكذا أوهمنا أنفسنا، وقفنا أمام السفارة الليبية نهتف بأصوات مرتجفة: ليبيا حرّه حرّه القذافي يطلع برّه، واللي بيقتل شعبه خاين، صدحنا في صحن المسجد العمري وفي شوارع درعا البلد والمحطة، الموت ولا المذلة، وقفنا في ساحة الساعة بحمص، مشينا في شوارع الدير، هتفنا في قصور العدل بحلب ودمشق، وقفنا في نقابة المحامين في السويداء تضامناً مع درعا، أينع زيتوننا شوقاً في إدلب، تظاهرنا في ساحة العاصي، في اللاذقية وبانياس وتدمر والرقة والقامشلي وعفرين، تمترسنا في شوارع دوما وحرستا والمزة وداريا بأجسادنا الحيّة، وآلاف المشاهد التي لا تُمحى من الذاكرة.
لكن وبالمقابل، فشلنا في إنتاج جسد سياسي واحد قادر على ترجمة كل تلك التضحيات نتائجَ أو نقاطَ تُحسب في تثقيل كفّة ثورتنا. انجررنا أو استسهلنا الانجرار إلى حمل السلاح، فأهدينا النظام ساحة مثالية للمعركة التي لا يتقن غيرها، قبلنا المشي وراء الشعبويين من حملة الرايات الأيديولوجية، وضربنا عرض الحائط بكلمات بعض الحكماء منّا ومن غيرنا ممن حاول حقاً نُصحنا. أخيراً وليس آخراً قبلنا التبعية للدول، كلّنا بلا استثناء، جميع القوى المحسوبة معارضة وثورة. نحن نستحق ما وصلنا إليه الآن.
ليس هذا بكاء المهزوم، ولا تمجيد المجرم السفاح الذي انتصر عسكرياً على حساب تحطيم الوطن وتمزيق المجتمع وتهجير السكان وسحق كل صوت حتى ولو كان أنيناً مكبوتاً، لا، إنّه صرخةٌ في وجوهنا، نحن الذين أوصلنا ثورة مُشتهاة حدّ الجنون إلى هذا العبث المجنون. لا حاجة بي لتكرار وصف النظام وأزلامه وبنيته وطرائق عمله، فقد بات الرضيع يعرفها. أنا الآن أصرخ في وجهي عندما أقف أمام المرآة كل صباح بعد أن أغسله من بقايا كوابيس لا تفارقني.
لقد خسرنا، هُزمنا وتحطّمت أحلامنا، لكننا لن نستسلم. يجب أن نعترف بالهزيمة لنقبل طرح سؤال بداية طريق الحل، برصانة ومسؤولية ووطنية لا تشوبها شبهة أو تلحقها تبعية أو تلوّثها مصلحة.
الفاعلون الحقيقيون في سوريا الآن هم على الترتيب التالي – وفق وجهة نظرٍ كاتب هذه السطور على الأقل – الروسي، الإيراني، التركي، الأسدي، الميليشاوي الطائفي والإرهابي، الأمريكي والإسرائيلي. البعض يسمي هذا احتلالاً وذلك حليفاً مناصراً لشعب مقهور مظلوم، والبعض يقول هذا دخل بقرار من الحكومة وفقاً لأحكام القانون الدولي، بينما الآخرين لا شرعية لهم. والوطن يقول كلّهم يحتلون أرضي ويمزقون جسدي بلا استثناء.
لنبدأ بتقبّل مبدأ احتلال بلدنا، ولنبدأ بمحاولة حصر المحتلين. فعلى ما يبدو أنّ الاتجاه الدولي ذاهب لإسناد حلّ هذه المأساة لصاحبة النفوذ المعترف به تقليدياً منذ أزيد من نصف قرن، أي لروسيا. حسناً، تبقى هذه أقلّ خطراً من إيران الملالي القادمة لتغيير الحاضر ومسح الماضي وبناء القادم، وفق رغبات وعنصريات وسخافات عفا عليها زمن البشرية، إلا من عقولٍ عفنةٍ تحت عمامات قذرة. لنذهب إلى موسكو ونطلب منها الحل، وفي الواقع هذا ما يحصل دون أن يجرؤ أحدٌ على قوله. ها هي الوفود تحجّ إليها لتفادي معركة تركية في الشمال، وها هي الدول العظمى بما فيها أميركا تقول للمتحذلقين من قيادات مؤسسات المعارضة الرسمية: اذهبوا إلى موسكو فالحل عندها. ألم تُشرق الشمسُ من موسكو، حسب تعبير من رفض يوماً زيارتها عندما كان على رأس مؤسسة ٍخيطت على عجلٍ لتصنيع حلّاً لم يعرف أحدٌ أنّه كان منذ ذلك الوقت مجرّد وهم!؟
لنتفق على أنّ الحل في موسكو، ولنطلب منها أن تعلن وصايتها على الدولة السورية – التي لم يبق منها بالمناسبة شيء – مقابل تخليها عن نظام الحكم العسكري الأمني المافيوي، ومقابل تعهدها بإخراج إيران وقطع دابر إرهابها الطائفي، ومقابل تفكيك كل الميليشيات الإرهابية مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم بي كي كي.
لكن السؤال الوجيه، هل تقبل موسكو ذلك، أو هل هي قادرة – لو قبلت – على بناء دولة سورية حديثة تحت وصايتها، وهي الغارقة في بحر تداول السلطة بين أشخاص محدودين؟ الحقيقة مرّة مرارة العلقم، لكن علينا أن نتجرّعها سُمّاً رُعافاً إن أردنا المضي قدماً. لن نتمكن من بناء دولة ديمقراطية ليبرالية حرة مستقلة بعد كل هذا الخراب في النفوس وفي العلاقات المجتمعية، كما في الحجر.
علينا أن نتقبل الهزيمة وأن نعترف بها، بل وأن نسعى لتغييرها عبر هضم المُحتل وجرّه إلى مسؤولياته التي يفرضها عليه نظرياً القانون الدولي. بغير ذلك ستطول معاناتنا، وسنعود لهذا الحل بعد عشرٍ أو عشرين عجافاً أخرى. علينا أن نتقبّل الهزيمة وأن نتقبّل معها تأجيل الحلم كاملاً، مع عدم التخلي عن سكراته في غفوات قيلولتنا الطويلة.