في مسلسل بوليسي مثير أنتجته وبثته قناة BBC في العام 2019 وحمل عنوان The Capture تكتشف مُحقِّقة بوليسية وجود بروتوكول سري متفَق عليه بين الاستخبارات البريطانية والأمريكية، تصنعان عَبْره أدلةً مُبرَمةً، من أجل إدانة الإرهابيين الذين يَنوُونَ شن هجمات ضد مصالح الدولتين.
وعَبْر “التصحيح” وهو الاسم المتداوَل لتقنية الفيديو في هذا المسار، تقوم وحدة من الفنانين في الرسم الحاسوبي (الغرافيك)، بتزوير مشاهد البث الحي الملتقطة عَبْر كاميرات المراقبة المنتشرة في شوارع وساحات ووسائط نقل مدن العالم، حيث يقتنع مَن يَتتبَّعون بثوث الكاميرات بوجود فئات إجرامية تنوي القيام بأعمال مخلّة بالنظام، ما يجعلها تُوجِّه الأمر للقوى الأمنية التي تقوم باعتقال هؤلاء، مُمتلِكة الأدلة التي تجعل القضاء يأمر بحبس المُستهدَفين، والحكم عليهم بالسجن لمدد طويلة!
هذه السلسلة الدرامية القصيرة (6 حلقات) تتشابه في مضمونها مع أعمال فيلمية ودرامية كثيرة، ألقت بأضوائها على سياق مخفيّ في عمل الأجهزة الأمنية، من أجل إحلال الأمان، وإن كان السبيل إلى ذلك اللجوء إلى طرق ملتوية، كتزوير أدلة، تُقنع الجهاز القضائي، وبما يسهل الوصول إلى الأهداف “النبيلة”، والتي تتجلَّى هنا بحماية المدنيين وتثبيت السِّلْم والأمان.
الاشتغال على دقائق الأمور، كما يفعل صُناع هذه الدراما، وهُمْ جهة مموَّلة من أموال دافعي الضرائب البريطانيين، ولا سلطة للدولة ولأجهزتها عليهم، يؤدي إلى ضرورة عدم الركون إلى أي دليل سمعي وبصري، قابل للتعديل في سَيْر العمل الجنائي والقضائي، وقبلهما الصحفي بالطبع.
لكن، من جهة أخرى -وهنا بيت القصيد- تتشابه القصة الدرامية الغريبة مع الواقع الفعلي، حيث لا بُدّ أن يُقاد المُشاهِد أو المُتابِع على حدٍّ سواء، إلى الاستغراق دائماً في محاولة تمييز الأفعال الصادقة عن تلك الكاذبة أو لِنَقُل الملفَّقة.
وإذا كنا نشهد انفجاراً بصرياً وسمعياً هائلاً، تختلط فيه الأشياء وتفاصيلها، وبما يخلق شبكة متراصّة من الصور المتشابهة، وتتراكم فيه أطنان من الأخبار التي لا تُعرَف مصادرها، ولا يجد المحررون طرقاً سريعة للتحقق منها، فهل نستطيع أن نبني مواقفنا السياسية والحياتية دائماً، على ما يتم نشره أمامنا، من قِبل هذه الجهة أو تلك؟
بعبارة أخرى، في الحدث الحالي، وبعد أسابيع من التطبيل الغربي بوجود خطة روسية لاجتياح أوكرانيا، والحديث شِبه اليومي عن مسارات متوقَّعة للعملية، في الوقت الذي كان فيه الكرملين ينفي كل ما سبق ذكره، ويتهم الغرب بالتضليل، يقع الحدث وتنكشف مواقع الفاعلين، فلم يظهر الروس على أنهم ملائكة كما كان بوتين يدَّعي، ولم تظهر دول حلف الناتو على أنها مدافعة بالقول والفعل عن أوكرانيا، التي باتت الآن بلداً في مهبّ الريح!
ألا يبدو للكثيرين أن صياغة المأساة قد بدأت من خلال طريقة التعاطي الغربية ذاتها مع هذا الملف، حيث تم تضخيم خيار الغزو، إلى درجة الإفصاح عن تَبِعاته، وبما يجعل بوتين مطمئناً إلى ما سيحدث، وإلى أن سلسلة العقوبات التي يتم التهديد بها، لن تكون أسوأ مما ناله الكرملين سابقاً من مثيلاتها؟! في الوقت الذي أطنبت فيه الدول الغربية بإعلاناتها عن وقوفها إلى جانب كييف!
يشعر المرء حيال ما يجري الآن، أن ثَمة تزويراً خطيراً في مجريات الواقع، وفيما يتم الإعلان عنه من مواقف، يؤدي فعلياً إلى سقوط المُستهدَفين كضحايا، لوَهْمٍ تمت صياغته بشكل دقيق، وبما يجعلهم عُرضة للوقوع في آبار عميقة لن يخرجهم منها أحدٌ.
هل صدَّق الأوكرانيون، أن هنا دولةً أو حلفاً سيتدخل من أجلهم؟
وفي المقابل ألم تُوحِ خطوات بوتين الدموية بظنون متماسكة من أن ما ستفعله قواته، سيكون أشبهَ بدخول نصل سكين ساخن، في قالب زبدة؟!
الأمر هنا يقوم ربما على التخلص من المشكلة المُزمِنة (مشكلة شرق أوكرانيا) عَبْر جعل الحل القسري (الغزو الروسي) واقع حال، وبالتالي الاستسلام لما جرى، واعتباره لاحقاً أمراً غير قابل للتعديل إلَّا عَبْر القوة العسكرية، وهذا خيار لا يريد أحد أن يتورط فيه، وطالما أن هذا هو ما سيكون عليه الوضع الراهن، فإن على الضحية أن ترتضي بما حصل، وأن تُسلِّم أمرها للقدر، ولقذارة النظام الدولي الراهن.
حصل شيء مُشابِه في أزمات عديدة حول العالم، زوَّرت القوى الدولية فيها مواقفها، إلى أعلى درجات الإقناع، وحينما استحقت الضحية المسانَدة، أُديرت الظهور، وبات عليها أن تتوسل خلاصها على يد سلسلة طويلة من قَوَّادِي المَصالح، ومُقامِري السياسات القذرة.