لم يكن سؤال العقل أمام الإسلام جديداً على ثقافتنا، فقد جسد المعتزلةُ حضورَ العقل منذ بداية القرن الثاني للهجرة، وسُرْعان ما ظهر مذهب أبي حنيفة النعمان الذي أعطى العقل مكانته أمام أهل الحديث وأخضع النص للعقل، وقال بالقياس والرأي، وتبعه بتوسُّع أبو الحسن الأشعري الذي يقال عنه إنه بدأ حياته معتزلياً، ثم خرج، ولكنه وافق المعتزلة على مكانة العقل، ولم يرفض ما يقول أهل الحديث ما دام العقل يوافقه، فرسَّخ مذهب الوسطية الإسلامية.
والواضح أن القضية التي تنشغل بها الفلسفة العربية هي ذاتها قضية المعتزلة في جوهرها، وإن تنوعت أشكال التعبير عنها، وتأتي استعادة الجابري وزملائه -وهم كُثْر- لسؤال العقل إثر تضخُّم الصدمة الحضارية الكبرى مع الغرب الذي ترك الدين وراءه، واعتبره ظاهرة تاريخية انتهت صلاحيتها (وهذا لم يكن إجماعاً بالطبع) لكن كثيراً من متفلسفي العرب، وبعضهم كان منبهراً بالغرب اجتهدوا لرمي الإسلام وراءهم، ولاعتباره حدثاً تاريخياً آنَ له أن ينتهي وأن يخرج من العصر الحديث.
ولقد جاءت هذه الاتِّعادة مواكبةً لانطلاق حركات التحرر التي شهدها الوطن العربي منذ أواسط القرن العشرين، وستبقى أسئلة الجابري وسواه معلقة يكررها المتفلسفون في المستقبل، فيؤيد إجاباتِها فريقٌ من الناس ويرفضها فريق آخر، وهذا هو الحراك الذي تحتاج إليه الثقافة العربية، كي يستمر العقل بالتفكير، وكي يستمر الرافضون في فحص أدواتهم، ولعل فضل الجابري في هذا الحراك أنه انطلق من داخل الثقافة الإسلامية وليس من خارجها، ولئن كان بعض المفكرين يأخذون ذلك على الجابري، فإنني أجده فضيلة فيه، وهذا ما يجعله مفكراً إسلامياً من وجهة نظر أمثالي ممن يحرصون على الثقافة العربية الإسلامية، وإن لم يعجب ذلك المستغربين الذين يجدون مستقبل الأمة فكرياً على الضفة الأخرى من المتوسط.
ويقر الدارسون لفكر الجابري بأنه لم يُرض الفريقين تماماً، وأحسب أن في هذا إخلاصاً لعقله الخاص ولرؤيته، وهذا القول لا ينفي وجود كثرة ممن أثار الجابري عقولهم ووجدوا في فكره إجابات أقنعتهم، وقد تحولت كتبه -وبخاصة التي انتقد فيها العقل العربي وبحث في مكوناته- مدرسةً فلسفيةً تستعيد كثيراً من أسئلة التراث الفكري لتزداد وعياً بالحاضر، ولتمنع العقل العربي من الاستمرار في استقالته.
ويبدو لي أن أي حديث عن الجابري لا بد له من استدعاء لموقف المفكر المعارض له (جورج طرابيشي) فقد اشتغل الجابري أكثر من عشرين عاماً على نقدِ العقلِ العربي، واشتغل صاحبه السوري المسيحي عشرين عاماً على (نقدِ نقدِ العقلِ العربيّ) وهو المشروع الذي يعتبره المفكر عبد الرزاق عيد أحد أهم ثلاث موسوعات فكرية تناولت التراث الفكري العربي الإسلامي في القرن العشرين. والآخران هما موسوعة المفكر المصري أحمد أمين عن (فجر وضحى وظهر الإسلام)، وموسوعة المفكر المغربي محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي).
كان جورج قد سحر بقراءة الجابري، وكان يعيد قراءة التراث وموقفه المسبق من القطيعة معه، ويدرك حجم الخيبات التي منيت بها الأيديولوجيات التي سقطت سقوطاً مُدَوِّياً، فضلاً عن الفضيحة التي حلت بالماركسية والنظم الاشتراكية على يد مَن حكم باسمها عقوداً، لكن إعجابه بالجابري لم يَدُمْ طويلاً، يقول في حوار صحافي في جريدة الحياة في يناير عام 2006: (غير أن رحلة إعجابي بالجابري لم تَدُمْ طويلاً، إذ شعرت بسرعة أن هذا المفكر أصاب العنوان لكنه أخطأ الهدف، أي أنه لم يقم بعملية النقد التي اعتقدناها. بل صادر عملية النقد في الوقت الذي كنا في أمسّ الحاجة إليها).
ويأخذ الطرابيشي على الجابري ما يراه نزع المفاهيم من نسقها الأصلي نزعاً عنيفاً والزجّ بها زجّاً لا يقل عنفاً في نسيج النسق الجديد. ويرى طرابيشي أن (ناقد العقل العربي يستعير، باعترافه، مفهوم النظام المعرفي (الإبستمية) من فوكو. وبغير اعترافه، مفهوم البِنْية اللاشعورية من ليفي شتراوس). ويقول طرابيشي: (لا يمثل الغرب والشرق في مشروع الجابري مقولتين جغرافيتين، بل هما مرفوعتان عنده إلى مقولتين إبستمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل، فما ينتمي إلى الغرب يمثل مبدأ المعقولية في أعلى أشكاله: البرهان، أما ما ينتمي إلى الشرق فنصيبه من مبدأ المعقولية مخفوض إلى مرتبة البيان، هذا إن لم يَتَرَدَّ إلى مرتبة أكثر تدنياً، هي مرتبة العرفان –المملكة السفلية للاّمعقول– في حال إيغاله في التشريق صدوراً عما يمكن اعتباره "شرق الشرق" وعلى هذا النحو يحاول الجابري تبرير موقفه الإعدامي من ابن سينا ومن شريكيه في "الثالوث غير المقدس" الذي شكَّله معه "العرفانيان" الرازي والغزالي.
كما يأخذ الطرابيشي على الجابري ما يسميه التشنيع الدائم على العربية وهو أحد ثوابت الإبستيمولوجيا الجابرية، ويرى أن هذه الإبستيمولوجيا تباطنها إستراتيجية نقدية قابلة للوصف بأنها "انتهازية". فالجابري لا يتوقف أبداً في مشروعه النقدي عند الواقعة المركزية التي هي الواقعة القرآنية التي صنعت عظمة الحضارة العربية الإسلامية وحدودهما معاً، بل هو يقفز "إبستيمولوجيّاً" إما إلى ما قبلها، أي إلى اللغة العربية بوصفها السلطة المرجعية للعقل العربي (القاصر) وإما إلى ما بعدها، أي إلى "عصر التدوين" بوصفه الإطار المرجعي لهذا العقل.
ويأخذ على الجابري تقسيم النظام المعرفي العربي إلى ثلاثة نظم "قومية" مستقلة منفصلة؛ نظام معرفي لغوي عربي الأصل، ونظام معرفي غنوصي فارسي الأصل، ونظام معرفي عقلاني يوناني الأصل. كما يأخذ عليه قوله في اللغة العربية (إنها اللغة الوحيدة في العالم التي ظلت هي هي في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرناً على الأقل) والطرابيشي يرى هذا الكلام تأسيساً لأعجوبة (انظر سمير أبو زيد في بحثه عن الطرابيشي في موقع فلاسفة العرب) ويقول جورج: (إن الجابري يحجر على اللغة العربية في ثلاجة (أربعة عشر قرناً)، ويتساءل :(أهي إذن هفوة قلم؟). والواضح أن الجابري يقصد لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي، وهي لغة حية خالدة ينطق بها ويرددها المسلمون في العالم، وحقاً لم يتغير في نحوها وتراكيبها شيء ولن يتغير.
ولا يبعد أن يكون الفكر المسبق المؤسس عند الرجلين كامناً وراء سطور النقد، وهذا ما ليس بمقدور المفكر مهما علا شأنه أن يتخلى عنه، على رغم ما نلحظ من موضوعية مدهشة في حديث الطرابيشي عن الإسلام الحضاري.
أخيراً، حَسْب الجابري فضلاً على الفكر العربي المعاصر أنه حرَّض على مثل هذا الحوار، وأغنى حياتنا الثقافية بأعمق الأفكار، لقد تمسَّك الجابري بعروبته وإسلامه في عصر كان فيه المُمسِك بهما قابضاً على جمر.