يظن من هم على خُلق نزيه بأن الذهنية سريعة التغير في الحال الثورية، وأن القيم ستشهد انقلاباً عاصفاً مناقضة لقيم مجتمع الاستبداد والفساد وعلى نحو فوري، وأن المنتمي إلى التغير والحرية والديمقراطية سيرتقي بسلوكه إلى مستوى الزهد، وأن المثقف الثوري سيُضرب به المثل في الترفع عن الصغائر المبتذلة والأكاذيب.
وتفكير كهذا أمر طبيعي، فالنقيض الأخلاقي لأخلاق الجماعة الحاكمة معيار أساسي للحكم على الانتماء لإرادة الحياة الجديدة، بل إنّ تكوُّن الماهية الجديدة لإنسان التمرد يُفضي إلى نمط من الوجود النبيل.
وعندما يرى الفردُ ما يناقض ظنه ببعض المنتمين إلى الثورة يشعر بخيبة أمل تصل حد اليأس، ويطرح على نفسه السؤال: لماذا؟
هناك أمران يساعدان على التقليل من خيبة الأمل وفقدان الثقة.
الأمر اﻷول: إذا كان صحيحاً أن الذهنية الثورية وقيم الثورة والسلوك الثوري حالات مناقضة لذهنية وقيم وسلوك الحال الماضية، فإن هذه الذهنية بما تنطوي عليه من قيم تعيشُ في البداية تناقضاً مع القيم النقيضة الموروثة، ولأن القيم والذهنية بطيئة التغير فإن السلوك -بوصفه مرتبطاً بالذهنية والقيم القديمة- هو اﻵخر بطيء التغير، وإنّ ثقافة عقود من الزمن -وقد صار جزء منها مكوّناً لا شعورياً في النفس- لا يمكنها أن تختفي عبر زمن قصير.
فالذي وُلد ونشأ وعاش في مجتمع يقوم على سيطرة أخلاق الفئة الحاكمة ذات الانتماء إلى الوسخ التاريخي بكل ممارساتها المناهضة لقيم الحق والإنصاف واحترام الإنسان وحريته وكرامته، فإنه شيئاً فشيئاً يكتسب أخلاق هذه السلطة دون إرادة منه، مع وجود استثناءات لا تمثّل إلا ظاهرة بسيطة.
لقد عادت الثورة لتذكّر الناس بأخلاق المجتمع الحميدة، وبكل القيم المرتبطة بالحرية والكرامة، فصار لدينا ذاكرتان: ذاكرة نشيطة استدعت إرثها الأخلاقي النبيل، وذاكرة كسلانة لم تستطع أن تتحرر من موروثات الوسخ التاريخي.
وهذا واضح من ظهور الحوار داخل المعارضة في صيغته العُنفية في أحيان كثيرة يصل حد اﻹقصاء، مع أن الحوار هو ثقافة الاعتراف.
ثانياً: إن الحالة الثورية ليست فضاءً دائماً من الزهد والتسامح والتعفف عن السلطة، وخلواً من الصراعات والتآمر، إنها خليط من التمرد والعنف والاستئثار بالسلطة والفداء، لكنها رغم هذا تؤدي وظيفة تحطيم العالم القديم. والعودة إلى تاريخ الثورات الكبرى في التاريخ أمر مفيد لمعرفة سيروراتها التي تتخذ ملامح شبه مشتركة.
بل إن القوى الثورية غالباً ما تنتقل من الصراع مع عدوها إلى الصراعات الداخلية أثناء الثورة على نحو بسيط قبل انتصار الثورة، وعلى نحو شديد بعد انتصار الثورة إن حصل. وإذا لم نتفهم هذا الأمر ونعمل على تخفيف آثاره السلبية سنزيد من العثرات على الطريق الذي يؤدي إلى التغير.
ولعمري إنّ أكثر العقول مسخرة في سيرورة الانتقال الثوري، تلك العقول التي ظهرت في عالم بينَ بينَ، فلا هي بقادرة أن تتحرر من انتمائها للوسخ التاريخي، ولا هي بقادرة على أن تظهر بمظهر الانتماء إليه طمعاً في الحضور والمكانة، وغالباً ما ينطوي هؤلاء على نوع من التقّية الخبيثة بانتظار الإفصاح عن ذواتهم حين لا يكون هناك خطر على الإفصاح. وخطاب هؤلاء خطاب المواربة.
ولكي نتجنب الخلط بين قوى الثورة المتناقضة والمتضادة، فإن هناك معياراً أساسياً يجب أن نُحكّمه في النظر إلى الذهنية الثورية الإيجابية: فمعيار الذهنية الثورية الإيجابية والحقيقية هو الخطاب الواضح الذي يسمي الأشياء بمسمياتها، ويكون الهدف ناصع الوضوح، وهو البديل المتناقض والمتجاوز للواقع على نحو يؤكد فكرة الحرية السياسية والاجتماعية المؤسِّسة للكرامة الإنسانية والوطنية.
فالأصوليات راديكاليات سلبية وخطيرة، والغمغمة في طرح البدائل أشد خطراً لأنها أشد وضوحاً، ولهذا فإن أخلاق الاعتراف لا تؤسَّس إلا على المعيار الآنف الذكر.
صحيح بأن الاعتراف يفترض الاختلاف، إذ لا اعتراف بدون اختلاف، ولكن الاختلاف الذي يقود إلى الاعتراف هنا ليس اختلافاً جذرياً، وإلا أصبح اختلافاً تضادياً وتناقضياً، أي صار اختلافاً صراعياً.
وتبرز المشكلة عندما يتحول الاختلاف بين قوى الأهداف المشتركة (الأهداف المرتبطة بالحرية وبناء العالم الجديد النقيض) إلى صراع.
وإذا ما تحول هذا النمط من الاختلاف إلى صراع، فهذا يعني بأن أخلاق سلطة الوسخ التاريخي وذهنيته ما زالت حاضرة في الوعي والممارسة.