ترجمة – قسم الترجمة في "نداء بوست" – عبدالحميد فحام
إن عقيدة بايدن التي تمّ الكشف عنها حديثًا هي علامة بارزة في السياسة الخارجية، فهي تتخلّى عن سياسات الولايات المتحدة التي أعقبت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لإعادة تشكيل مجتمعات أخرى وبناء دول في الخارج. وإذ تأتي في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فإنها مليئة بالمصداقية. في الواقع إن تحركات الرئيس بايدن تضفي الطابع الرسمي وتنهي العمليات التي كانت جارية منذ أكثر من عقد من الزمن. فلقد كان باراك أوباما هو أول من تعهّد بإنهاء حربَيْ أمريكا في العراق وأفغانستان اللتين بدأهما جورج دبليو بوش. كان دونالد ترامب هو الذي توصّل إلى اتفاق مع طالبان بشأن انسحاب عسكري أمريكي كامل من أفغانستان في عام 2021. كما سعى كل من أوباما وترامب -وإن كان ذلك بطرق مختلفة بشكل لافت للنظر- إلى إعادة توجيه انتباه واشنطن إلى دعم القاعدة الداخلية.
من المهم لبقية العالم أن يتعامل مع التغيير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل صحيح. إن مغادرة أفغانستان كانت القرار الإستراتيجي الصحيح، إذا تأخر بشكل كبير عن موعده وفشل في المراحل الأخيرة من تنفيذه. من المؤكد أن أفغانستان لا تعني نهاية الولايات المتحدة كقوّة عظمى عالمية. إنها ببساطة مستمرة في الانحدار النسبي والبطيء, كما لا يعني ذلك أنه زوال للتحالفات والشراكات الأمريكية. فمن غير المرجَّح أن تُسفر الأحداث في أفغانستان عن زلزال سياسي داخل الولايات المتحدة من شأنه أن يطيح بالرئيس بايدن. ومن غير المحتمل أن يظهر أي شكل من أشكال التشتت الذي عاشه الأمريكيون خلال حرب فيتنام. بدلاً من ذلك، تنشغل واشنطن بإعادة ضبط مشاركتها العالمية. إنها تركز أكثر على تقوية القاعدة الداخلية. فخارجياً، تنتقل الولايات المتحدة من حملة صليبية عالمية باسم الديمقراطية إلى الدفاع النشط عن القيم الليبرالية في الداخل والمواقف الغربية في الخارج.
كانت أفغانستان هي الأكثر حيوية في سلسلة طويلة من الحجج التي أقنعت البيت الأبيض في عهد بايدن بأن انتصارًا عالميًا للديمقراطية الليبرالية لا يمكن تحقيقه في المستقبل المنظور. وبالتالي، فإن إعادة تشكيل البلدان التي تعاني من مشاكل -"تجفيف المستنقع" الذي يولّد الإرهاب بلغة إدارة بوش- أمر غير مجدٍ. فالقوة العسكرية الأمريكية هي سلاح قوي، لكنها لم تعد وسيلة تستخدمها كخيار أول. لقد تمّ الانتصار في الحرب على الإرهاب كمحاولة للحفاظ على أمن الولايات المتحدة, ففي العشرين عامًا الماضية، لم تحدث أي هجمات إرهابية كبيرة على الأراضي الأمريكية. وفي غضون ذلك، تحوّل التركيز الجيوسياسي والجغرافي الاقتصادي والأيديولوجي والإستراتيجي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة باتجاه الصين والتي هي المتحدّي الوجودي الرئيسي -كما يقول البعض- وروسيا التي هي المسبب الرئيسي للاضطرابات بالإضافة إلى إيران وكوريا الشمالية ومجموعة متنوعة من الجماعات المتطرّفة أو الراديكالية التي تشكّل قائمة الخصوم. كما ارتفع تغيّر المناخ والوباء إلى قمّة المخاوف الأمنية الأمريكية. ومن ثَمّ، فإن أهم مهمة للسياسة الخارجية هي تقوية الدول الغربية بشكل جماعي تحت قيادة أمريكية قوية.
لقد وجّه الركود الاقتصادي العالمي الذي نشأ في الولايات المتحدة في عام 2007 ضربة للنموذج الاقتصادي والمالي الذي أنشأته الولايات المتحدة، وقوّضت الأزمة السياسية المحلّية الشديدة في الفترة ما بين عامَيْ 2016 و2021 الثقة في النظام السياسي للولايات المتحدة والقيم الكامنة وراءه بالإضافة لكارثة كورونا (كوفيد-19) التي ضربت الولايات المتحدة بشكل خاص، فكشفت كل هذه الصدمات عن مشاكل سياسية واقتصادية وثقافية خطيرة وتصدّعات داخل المجتمع والسياسة الأمريكية. إن إهمال القاعدة الداخلية أثناء الانخراط في مناورات مكلفة لبناء الدولة في الخارج كان له ثمن. الآن، شرعت إدارة بايدن في تصحيح ذلك من خلال مشاريع تطوير البنية التحتية الضخمة ودعم الطبقة الوسطى الأمريكية.
وقد أدّت الأزمات الداخلية في أمريكا، وبعض المشكلات المماثلة في الدول الأوروبية، والفجوة المتزايدة بين الولايات المتحدة وحلفائها خلال رئاسة ترامب إلى مخاوف واسعة النطاق من أن الصين وروسيا قد تستغلان هذه القضايا لإنهاء الهيمنة الأمريكية، بل وحتى تقويض الولايات المتحدة والدول والمجتمعات الغربية الأخرى من الداخل. هذا التصوّر هو وراء انعكاس الإستراتيجية من نشر الديمقراطية بقدر اتساع نطاق ومدى تأثير روسيا والصين إلى الدفاع عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والأنظمة السياسية ضد بكين وموسكو في جميع أنحاء الغرب بما في ذلك في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، ما هي دلالات عقيدة بايدن؟ لا تزال الولايات المتحدة قوة عظمى لديها موارد هائلة تحاول الآن استخدام هذه الموارد لتقوية نفسها. لقد أعادت أمريكا ابتكار نفسها من قَبل وقد تتمكّن من فعل ذلك مرّة أخرى. فعلى صعيد السياسة الخارجية، تراجعت واشنطن عن وصف نفسها بأنها القوة المهيمنة الوحيدة في العالم التي تتزعّم القتال عند تعرُّض الغرب للهجوم.
إنّ الزعامة والهيمنة الأمريكية على الغرب ليست في خطر فلا أحد من الدول الغربية قادر على أن يتزعّم أي صراع بمفرده أو أن يشكّل كتلة مع الآخرين لتقديم بديل للزعامة الأمريكية. وتظلّ الدول والنخب الغربية المرتبطة بها مدينين بالفضل للولايات المتحدة. فما يرغبون فيه هو قيادة أمريكية حازمة وما يخشونه هو انكفاء الولايات المتحدة على نفسها. أما بالنسبة لشركاء واشنطن في المناطق التي لا تعتبر حيوية لمصالح الولايات المتحدة، فعليهم أن يعلموا أن الدعم الأمريكي مشروط بتلك المصالح والظروف المختلفة. لا شيء جديد هناك بالفعل، وهو أمر يعرفه بعض القادة في الشرق الأوسط. لكن في الوقت الحالي، تتعهّد واشنطن بدعم ومساعدة الشركاء الذين يتعرّضون لمخاطر مثل أوكرانيا وتايوان.
إن تبنّي الانعزالية ليس مطروحاً في الولايات المتحدة. فعلى الرغم من كل التركيز على القضايا المحلّية، إلا أنّ الهيمنة العالمية أو على الأقل جعلها أولوية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية للولايات المتحدة. ولن يتمّ التخلّي عن الأيديولوجية الليبرالية والديمقراطية كمحرّك رئيسي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. لن تصبح الولايات المتحدة دولة "طبيعية" تتبع فقط قواعد السياسة الواقعية. بدلاً من ذلك، ستستخدم واشنطن القيم كعامل جذب لتعزيز حلفائها وكسلاح لمهاجمة خصومها. من المفيد للبيت الأبيض أن يُنظر إلى الصين وروسيا على أنهما خبيثتان عَبْر كل من الطيف السياسي للولايات المتحدة وبين حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، ومعظمهم لديهم مخاوف أو ضغينة ضد موسكو أو بكين.
باختصار، تلغي عقيدة بايدن الارتباطات التي لم تعد واشنطن تعتبرها واعدة أو مُستدامة، فتقوم بضخّ المزيد من الموارد لمعالجة القضايا المحلّية الملحّة وتسعى إلى تعزيز الغرب كجماعة والتفافه حول الولايات المتحدة، وتزيد من حدّة التركيز على الصين وروسيا باعتبارهما الخصمين الرئيسيين لأمريكا. من بين كل هذا، فإن العنصر الأكثر أهمية هو محلّي. إن نجاح أو فشل إعادة تشكيل أمريكا، وليس أفغانستان، هو الذي سيحدد ليس فقط إرث إدارة بايدن، ولكن مستقبل الولايات المتحدة نفسها.
المصدر: المجلس الروسي للشؤون الدولية