طوّر الفقيه النراقي نظرية “النيابة العامة” بمنحى تصاعدي توصل فيها إلى “تصدي الفقهاء” للحكم بأنفسهم بدلاً من إجازة الملوك، وبذلك يكون أول مَن وضع نظرية “ولاية الفقيه” على الورق ليضعها من بعده روح الله الخميني في أوراق الدستور الإيراني، وما بين الرجلين تراكمت أوراق القوة والنفوذ في أيدي المؤسسة الدينية. أرجع المؤرخ الإيراني الدكتور حامد الكار تعاظُم نفوذ الفقهاء خلال الحكم القاجاري لافتقارهم للشرعية -بالمنظور الشيعي- مقارنةً بالصفويين المنتسبين لأئمة آل البيت ادعاءً، لذا تودد القاجاريون للفقهاء، ثم ما لبثوا أن توسلوا إليهم نتيجة الهجمات الروسية والتي فرضت تصدُّر الفقهاء لتنفير الإيرانيين للدفاع عن سلطنتهم. بلغت المؤسسة الدينية ذروة قوتها خلال الثورة الدستورية وما كرسته من مادة دستورية تعطي اللجنة الخماسية للفقهاء دراسة مشروعية القوانين من ناحية مطابقتها لأحكام الدين قبل إقرارها من قِبل الشاه.
الثورة الدستورية، المستبدة والمشروطة:
تعتبر ثورة "التنباك" التي تزعمها الميرزا محمد حسين الشيرازي عام 1891 أبرز نماذج تعاظُم سلطات الفقية في مواجهة سلطات الشاه، باستعمال سلاح الفتوى الذي أثبت فاعليته، إذ حرّم الشيرازي التدخين بفتواه المشهورة، نتج عن هذا التحريم إلغاء الامتياز الممنوح من قِبل الشاه ناصر الدين للإنجليزي تالبوت، والمتضمن حق احتكار التبغ والتنباك على الأراضي الإيرانية.
جذب سلاح الفتوى التيارات السياسية الساعية لإحداث تغيير في نظام الحكم، فنشأ تحالف ضم في صفوفه الليبرالي والقومي والاشتراكي والديني، أثمرت جهود التحالف بإقرار دستور للبلاد إلا أنه لم يَدُمْ طويلاً نتيجة الخلافات التي أصابت التحالف بين تياريه العلماني والديني من جهة، والديني الديني من جهة أخرى، حيث انقسم التيار الديني إلى مدرستين، نادت إحداهما بحكومة دستورية شرعية (المستبدة) فيما نادت الأخرى بالحكومة الدستورية (المشروطة)، وفيما يلتقي الطرفان بأن السلطة القائمة غاصبة لحق الإمام المنتظر، تختلف المشروطة عن المستبدة بأن السلطة غاصبة لحق الأمة في غياب الدستور، إذ يعتبر الميرزا حسين النائيني (الزعيم الروحي للمشروطة) أن “الحاكم الظالم الذي لا يتقيد بدستور ومجلس نيابي مغتصب لأمرين معاً: حق الإمام الغائب، وحرية الشعب، بينما الحاكم المقيد بالدستور والبرلمان فهو مغتصب لحق الإمام وحده ولكنه يؤمّن حريات الشعب، ولذلك يرجح حكمه على مَن لا يتقيد بالدستور طالما أن غيبة الإمام مستمرة”.
يرى أنصار المستبدة بزعامة فضل الله النوري في الحياة الدستورية “أمراً مخالفاً للشرع من الأساس، فالقوانين التي تشرع مساواة الرجل بالمرأة، والمسلم بالكافر وتبيح المُسكرات هي قوانين منافية للإسلام،……، إن مفاسد الحياة الدستورية وضررها قد جاءت أشد وطأة من السلطة المستبدة” حسب رأي التبريزي.
تُعتبر أفكار النائيني أول أفكار متناسقة حول السلطتين التشريعية والتنفيذية ودور الأمة في نظام الحكم والفصل بين السلطات، متأثراً بنظرية العقد الاجتماعي لجون لوك، مستنبطاً معها أدلة شرعية تدعم موقفه، إذ جاء بالعهد المرسل من الإمام علي إلى مالك الأشتر قوله “واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها التجار أهل الصناعات”، كما وسّع النائيني من مظلة الشورى لتشمل الأمة بدلاً من اقتصارها على أهل الحل والعقد، واضعاً بذلك نظرية “ولاية الأمة” التي تحكم نفسها عن طريق مجلس منتخب، يُصدر قراراته بالأغلبية المعادلة “للشهرة” في عرف الأصوليين، حسب رأي النائيني.
اعتمد الفقهاء الشيعة لتحديد موقفهم من السلطة على علم الكلام، مع التوسع في فقه المعاملات، ومنها نظام التوكيل للتخلص من إشكالية عدم جواز حق البشر في الحكم والتشريع، ضمن المبدأ المعروف بـ”منطقة الفراغ”، وهي المساحة المسكوت عنها في النصوص، لذا لا بد من إشراك الناس فيها، عن طريق الاستعانة بالصفوة الفكرية والنخب الاجتماعية، ولا يقوم ذلك إلا بالبرلمان، وهو ما ناقضه النوري، مطالباً “حجج الإسلام ونواب الإمام لخدمة الدولة الشيعية والمذهب الشيعي الاثني عشري، فما نسعى إليه هو مجلس شورى إسلامي يتفق مع القوانين والشرائع الإسلامية، وليس مجلساً قائماً وَفْق أسس البرلمان الفرنسي والإنجليزي” واضعاً شروطاً لممثِّلي الشعب في المجلس، كأن يكون مسلماً على المذهب الاثني عشري، ولضمان شرعية المجلس -حسب النوري- فإن الفقيه المجتهد هو المرجع في سنّ القوانين وليس الأغلبية، إذ إن “ التصرف في الأمور العامة شأن خاص بنواب الإمام الذين لهم الولاية في عصر الغيبة، فعضو مجلس الشورى غير المجتهد ليس له الحق في التدخل وسنّ القوانين” وبذلك يكون النوري قد أقام شرعية البرلمان على ولاية الفقيه.
الخميني وولاية الفقيه:
على وَقْع الصراعات الفقهية بين المستبدة والمشروطة، وبينهما معاً في مواجهة التيارات العلمانية تم تعليق الدستور، فقد استغل الشاه الأحداث السياسية التي عصفت بالبلاد لضرب الفريقين تباعاً، إذ تم إعدام فضل الله النوري (يُعتبر تاريخ إعدامه تاريخاً لافتتاح مجلس الشورى في النظام الإيراني الحالي)، وتُوفي محمد كاظم الخرساني، المرجع الشيعي الأعلى وزعيم مدرسة المشروطة، خلفه كاظم اليزدي الذي تزعم مدرسة المستبدة مُمارِساً أشدَّ الضغوط على مخالفيه مما حَدَا بالنائيني للتخلي عن أفكاره السابقة.
حملت التطورات السياسية في إيران الجنرال رضا المازندراني إلى عرش الطاوس، وبقبضة حديدية وخلفية عسكرية تمكَّن من تعبئة فراغات السلطة المتعددة في المجتمع الإيراني، ومنها المؤسسة الدينية التي قام بتحييدها، إذ يعتبر رضا شاه أن إيران لا يمكن حكمها إلا من قِبل شاه واحد، وأنا هذا الشاه، سار خليفته محمد رضا على نهجه بعد عودته للسلطة إثر فشل الحركة الوطنية بقيادة الدكتور مصدق نتيجة عوامل عدة منها تخلي التيار الديني، بزعامة أبي القاسم الكاشاني عن مصدق، وما يعنينا من الأمر هو تحجيم الشاهين للمؤسسة الدينية، واستفزازها في بعض الأحيان، كالغداء الذي بثه التلفزيون الإيراني في شهر رمضان، الذي أقامه محمد رضا شاه للرئيس الأمريكي.
دخلت المؤسسة الدينية خلال الحكم البهلوي مرحلة الجمود والانحسار، متباينة في آرائها وتوجُّهاتها في مَسارِبَ ثلاثةٍ، سار الأول منها على خُطى “آية الله” البروجردي بعدم التدخل بالسياسة ومثَّل هذا التوجه، الخوئي وآراكي، وسعى التيار الثاني إلى تفعيل دور الفقهاء في شؤون الدولة دون المطالبة بإسقاط نظامها، ممثَّلين بالكلبايكاني وكاظم شريعتمداري، فيما طالب الأخير بسقوط الشاه، ممثَّلاً بالخميني، الذي نقل ولاية الفقيه من الحيِّز النظري إلى الواقع العملي إثر نجاح الثورة الإيرانية عام 1979.
يقسم البعض تطوُّر الفكر السياسي للخميني إلى ثلاث مراحل، بدأت الأولى منها بكونه فقيهاً تقليدياً مؤمناً بالانتظار ورافضاً للخط الثالث القائم على الجمع بين نظريتَيْ الالتزام بالنص (الشيعية) في زمن وجود “الأئمة المعصومين” والعمل بالشورى (السنية) في حال عدم وجودهم، مع بداية الستينيات اقترب الخميني من فكرة الدولة الدستورية التي نظّر لها النائيني، انقلب عنها لاحقاً في كتابه "الحكومة الإسلامية" الذي كرّس فيه “ولاية الفقيه” والتي أضاف لها شروطاً لم تكن من قبل، إذ اشترط لها العِلْم بالقانون والسياسة والعدالة، كما ميّز بين الحكومة الإسلامية وسواها من الحكومات، فهي ليست مستبدة، إنما مشروطة، لكنها ليست مشروطة بالمعنى المعروف لدى الآخرين لناحية وَضْع القوانين بناءً على الأكثرية وآراء الناس، بل لناحية الحكام المُقيَّدين بالتنفيذ والإدارة بالشروط التي حددها القرآن والسُّنَّة، وللوصول إلى هذه الحكومة تم صياغة الدستور الإيراني على ضوء مبادئ "ولاية الفقيه"، وقد حاز الدستور على موافقة الناخب الإيراني على وَقْع الحرب العراقية الإيرانية والوقائع الداخلية في إيران كاقتحام السفارة الأمريكية، فقد استغل الخميني جميع الأحداث لفرض مشيئته على منافسيه من التيارين العلماني والديني.
يضيف "حجة الإسلام" محسن كديور مرحلة رابعة دخلها الخميني في سنوات حياته الأخيرة، حيث طرح الخميني فيها "ولاية الفقيه المطلقة" منذ العام1987، وتم إقرارها بالتعديلات الدستورية لعام 1989، غير أنها لم تَرْقَ لتطلُّعات الخميني ، حيث يقول: "إن ما يتضمنه الدستور هو بعض شؤون ولاية الفقيه، لا كلها"، فالصلاحيات بعُرْف الخميني هي "أن تمنع فيه أمراً أو عملاً عبادياً أو غير عبادي. تستطيع الحكومة منع أداء فريضة الحج التي هي من الفرائض الإلهية المهمة في الفترة التي يكون فيها الأداء مخالفاً لمصلحة البلد الإسلامي منعاً مؤقتاً، بالإضافة لرفض الخميني لفكرة انتخاب الولي الفقيه أو اختياره من قِبل الشعب، فالولي الفقيه منصب من الإمام المعصوم، بحسب الخميني وبما أن الإمام مُعيَّن من الله فلا يحق للبشر التدخل في التعيين أو الاختيار، فيقول الخميني: "إن ولاية الفقيه أمر إلهي لا يُحدد من قِبل الناس" مضيفاً عليها فكرة القداسة التي تفترض اعتبار ولاية الفقيه معياراً للإيمان ومُنْكِرها في مراتب الكفر، واضعاً بذلك الأساس الأيديولوجي لنوع من أنواع الحكم الإلهي، عائداً بالتاريخ إلى نظرية "الفيض الإلهي" التي قامت عليها الإمبراطورية الفارسية الأولى.
خاتمة:
نسف الخميني بنظريته الولايتية أحدَ مُرتكزات العقيدة الإمامية، إذ إن وجود حكومة الولي الفقيه، بالصلاحيات المطلقة والمساوية في وظائفها لوظائف النبوة والإمامة، تنفي الحاجة لعودة "الإمام المنتظر" الذي سيملأ الأرض عَدْلاً بعد أن مُلِئَتْ جَوْراً، إلا أن تكون هذه العودة لإزالة الظلم والجَوْر الذي خلّفته الحكومة التي تدعي الحكم نيابةً عنه والتي عارضها حتى مَن قام بوضعها في الدستور، إذ يقول حسين منظري (خليفة الخميني الذي تم عزله)": إنني اقترحت إدخال المادة القانونية (الخاصة بولاية الفقيه) وهي من صنيعتي، لكنني أرفضها اليوم؛ لأن الولي الفقيه حسبما كنت أريد لا يعدو مُراقِباً، ينظر الأمور ويقدم النصائح إلى السلطات القانونية، لكن ما نراه اليوم هو قيام ديكتاتورية أكثر استبداداً من النظام السابق باسم الدين ومذهب أهل البيت تحت مظلة ولاية الفقيه التي جمعت تحتها عناصرَ فاسدةً ومُنحرِفةً ومُنافِقةً لا دينَ لها ولا إيمان لا بثورة ولا بأخلاق".