دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الثالث، ولم تُحسم نتيجتها بعدُ. وربما يجب أن تُعاد صياغة هذه الجملة بدقة مفادها: دخلت الحرب الرُّوسبُوتينيَّة على أوكرانيا في قلب أوروبا أسبوعها الثالث، ومن الصعب حسم نتيجتها مبكراً، وهي المتأرجحة بين انحسار روسيا الكلي وهدم النزعة القيصرية البُوتينية وانكفاء التمدد الجيوبوليتيكي الروسي لداخلها، وبين الهيمنة وفرض شروطها على العالم من داخل أوروبا!
منذ عام 2014 والتمدد الروسي مرقوب عالمياً، فقد أشار تقرير الخارجية الأمريكية بوضوح وقتها إلى عودة الجيوبوليتيك العالمي لواجهة السياسة الدولية، متمثلاً بالتمدد الإيراني بالشرق الأوسط، والتوسع الاقتصادي البري الصيني عَبْر خطوط الحرير التجارية من آسيا لكل العالم، والاستمالة الروسية لعودة التوسع والنفوذ العالمي بطريقته العسكرية الكلاسيكية؛ هذا إضافة لإمكانية تشكيل تحالُف دولي يناهض العولمة في ذلك؛ هذا ولم تكن روسيا لوقتها قد تدخلت عسكرياً بالملف السوري، مكتفية بالعمل الاستخباراتي والاستشاري واستخدام حقّ النقض “الفيتو” من بوابة مجلس الأمن لتعطيل القرارات المُدِينة للسلطة السورية فقط، أضف لتدخُّلها الجيوسياسي مسألة القرم الأوكرانية في حينها.
منذ عام 2015، وتحديداً منذ تدخُّلها العسكري المباشر في الثورة السورية، بدأت تتكشف للعلن النزعة الرُّوسبُوتينيَّة في العودة للتنافس الحادّ على قطبية العالم مجدداً. وبدأت عملياتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية الدولية تُظهر قدرتها على التعامل مع ملفات منطقة الشرق الأوسط، من وعَبْر سورية، بطريقة “الزحزحة” الجيوبوليتيكية للهيمنة والسعي للتفرد في ملفاتها، ما يؤهلها للعب دور عالمي في معادلات النظام العالمي وفرض شروطها عليه من الموقعة السورية. إذ تشير مراكز دراستها، وخاصة مركز كاتخيون للدراسات وعلى رأسه ألكسندر دوغين، إلى عودة روسيا لقمة الهرم العالمي وتحجيم النفوذ الأمريكي دولياً، وَفْق ثلاث طرق في الفعل المباشر والمنفذة تكتيكياً وإستراتيجياً على خلفية نظريتها الرابعة في السياسة:
– الهيمنة على خطوط الإمداد البرية الدولية في محيطها الحيوي، فكانت الهيمنة على البوكمال السورية مفتاح نصر لبوليفار روسيا في عام 2017، حسب المركز ذاته، إذ يفتح الطريق من موسكو إلى طهران فبغداد فدمشق عَبْر البوكمال وصولاً للساحل السوري. ومثلها محاولات التوصل لفتح طرق الـ M4 , M5 التي تصل موسكو عَبْر أنقرة فحلب ومنه للساحل السوري، عَبْر مفاوضات أستانة الماراثونية مع تركيا وما تخللها من عمليات عسكرية شديدة الوطأة خاصة في موقعة حلب الكبرى نهاية 2017.
– الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط وبناء قاعدة عسكرية فيه، تمثلت بالاستيلاء على ميناء طرطوس وربما اللاذقية أيضاً إضافة لقاعدة حميميم العسكرية فيها.
– بناء محور من التفاهُمات الجيوعسكرية من خلال المسألة السورية تربط الفِرَق المتنازعة في الملف السوري ممثلة بتركيا وإيران عَبْر مواقع أستانة التفاوضية التي فاقت الـسبعة عشر دون نتيجة تُرجى. بحيث تمثل هذه التفاهمات مدخلاً واسعاً لبناء المحور الأوراسي المزمع الوصول إليه بوصل آسيا وأوروبا في محور دولي مركزه موسكو وفي مواجهة الغرب الأمريكي.
لا يخفى على أحد مُجريات الحدث السوري اليوم، ولكن قلَّما تبين المتابع حِدّة الخلاف الروسي الغربي في الملف السوري، إذ كانت تشير المغالطات السياسية والإعلامية إلى تفاهُمهم فيه وحوله. لكن قراءة الملفات الجيوبوليتيكية بعمقها وَفْق منظورها الذاتي، تظهر مدى حِدّة الخلاف الغربي الروسي بدءاً من سورية، دون الوصول لنتيجة واضحة في شأنها رغم موافقة الروس على القرار 2254 واللجنة الدستورية وبقية الملفات السورية، لكن دون نتيجة قابلة للتفعيل على أرض الواقع، والتي أوصلت الأمريكان والغرب بعمومه لمفهوم خُطوة مقابل خُطوة لتقريب وجهات النظر حولها أواخر العام الفائت. فيما كان الغرب وخاصة أوروبا يدركون خطر الضغط المباشر على روسيا، مع محاولة تحجيم تمدُّدها العالمي في ملفات الشرق الأوسط، وربما يدركون نيتها العودة للمسألة الأوكرانية في قلب أوروبا قبل حدوثها الفعلي هذه الأيام.
اليوم الرُّوسبُوتينيَّة في قلب أوروبا، وحِدّة المعارك العسكرية في أوكرانيا، والاستنفار الغربي الأوروبي على أشُدّه، بدءاً من العقوبات المالية والاقتصادية الواسعة المحققة اليوم على روسيا، ومحاولة حصارها العالمي وتقييد حركتها المالية والاقتصادية كخطوات ردع سياسية ناعمة لكنها ذات تأثير فعّال، إلى تقديم الدعم اللوجستي والإمداد العسكري والتقني للأوكرانيين، أضف للأهم من هذا كله، التوجه نحو العمق العالمي بالإجابة عن السؤال المهم والمحوري في قلب أوروبا اليوم: ماذا لو انتصرت روسيا في معركة أوكرانيا؟ ما يعني قدرة الدبّ الروسي على التحكُّم بخطوط الطاقة الأوروبية ومن خلفها 80% من طاقتها وإنتاجها الصناعي، ما له انعكاسات كبرى على السياسة الدولية عامة، وعلى طريقة إدارة ملفات العالم كافة وليس الشرق الأوسط فقط. السؤال الثاني، وعلى النقيض من الأول: ماذا لو خسرت روسيا الحرب؟ وهنا تبرز الإجابات الأكثر إذهالاً والأشدّ فتكاً بالنفوس، فهل سيستخدم بوتين السلاح النووي لمنع خسارته تلك؟
ما هو غير متوقع هو المتوقع للأيام وربما الشهور القادمة في المسألة الأوكرانية، فمن المبكر القول في نتائج الحرب الجارية اليوم في قلب أوروبا، بَدْءاً من أوكرانيا، لكن الواضح والجليّ أنها تَشِي بمتغيرات عالمية حادّة قد تتمدد لما لا يُحمَد عُقْباه!
من سورية إلى أوكرانيا في العمق الأوروبي مَسار واضح المعالم لمن أراد أن يقرأ المشهد الدولي والعالمي بحدة وعمق أزماته المالية والاقتصادية والسياسية. فإن كانت أوروبا -وخلفها أمريكا- حاولوا بشتّى الطرق تجنُّب المواجهة المباشرة الروسية، وترك سورية وملفاتها فريسة للرُّوسبُوتينيَّة كإحدى طرق ترويض نزعتها القيصرية في الهيمنة العالمية، لكن العالم اليوم وخاصة أوروبا، في مواجهة الأسئلة الصعبة التي من غير الممكن الإجابة عليها بإدارة الظهر والاكتفاء بإدارة ملفاتها عن بُعد كما الحالة السورية، فسؤال العالم اليوم: ما هي الخطوة القادمة لمنع تحوُّل أوروبا لساحة حرب واسعة تعود بالذاكرة للحرب العالمية الثانية وشدة أخطارها ومن خلفها لعنات الجيوبوليتيك الدولي التي بدأها وقتَها، والعالم يخشى اليوم تكرارها…