قاعدة فقهية تقول “ما لا يدرك كله فلا يترك جُلّه”، فواشنطن ربما أدركت المراد من هذه القاعدة الفقهية وعملت على تطبيقها، وذلك بإعادة ترميم علاقاتها مع الرياض التي وصلت حد ليس الفتور بل ربما التقلص والتجمد، ولأجل هذا وبهدف إصلاح العلاقات أكد مسؤولون أمريكيون بارزون أن واشنطن على استعداد لإعادة ضبط العلاقات مع الرياض، وتجاوز قضية الصحفي جمال خاشقجي الذي قتل في قنصلية بلاده في إسطنبول خريف عام 2018.
تحول لا شك هو أكبر من كبير في نظرة واشنطن للرياض، وخاصة من زاوية اتهام الولايات المتحدة لولي العهد السعودي بالتخطيط وبشكل مباشر في قتل خاشقجي، وتعهُد الرئيس الأمريكي جو بايدن بحملته وبرنامجه الإنتخابي بنبذ السعودية لقيامها بعملية تصفية الصحفي المذكور، ليس هذا فسحب، بل إن إدارة بايدن قامت العام الماضي بنشر تقريراً استخباراتياً اتهمت فيه بن سلمان بشكل مباشر ودون أية مقدمات بقتل جمال خاشقجي.
إن التحول في السياسة الأمريكية تجاه السعودية فرضته عوامل وأسباب جعلت من واشنطن تلتفت عن الجانب الأخلاقي في مقتل خاشقجي، لتُيمِّم شطر وجهها بالكلية إلى مصالحها، المصالح التي تحرك وتهم الكثير من الدول التي نادراً ما تثبت على موقف، وخاصة إذا تعلق الأمر بالجانب الإنساني والأخلاقي فحيث مالت مصالح بعض الدول فإنها ومعها تميل المواقف.
لا شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا ربما مثّل العامل الأكبر الذي هيأ لعودة الدفء إلى العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد سبق الحديث عن عودة العلاقات بين واشنطن والرياض، وإعادة ضبطها لقاءات جمعت منذ فترة كبيري مستشاري بايدن، “بريت ماكغورك” “وآموس هوشتاين” مع مسؤولين سعوديين وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان، ولا شك أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وقع تحت وطأة الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياتها الدولية الكبيرة، ولا سيما في مجالي النفط والغاز الذي وصل سعره إلى مستويات غير مسبوقة، فواشنطن ومنذ الأيام الأولى للغزو الروسي دعت حلفائها في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي إلى تقليل الاعتماد على النفط والغاز الروسيين، والبحث عن بدائل ومنافذ أخرى لتأمينهما وتعويض النقص الحاد الحاصل في الأسواق الأوروبية، نتيجة العقوبات الأمريكية والغربية التي فرضت على روسيا وعلى قطاعي النفط والغاز بشكل أساسي.
فالتعويل على النفط السعودي هو أحد هذه البدائل، ولعب دوراً مهما في إعادة بلورة علاقة البلدين ببعضهما، وإعادة ضبط هذه العلاقات، وهذا ما حدا بمسؤول أمريكي بارز للتصريح بأن الدولتين اتفقتا على تجاوز قضية خاشقجي في سبيل إحلال السلام والإستقرار في الشرق الأوسط.
بالتأكيد فإن السعودية بالنسبة للولايات المتحدة هي حليف استراتيجي لآماد وآجال طويلة، وليست بحليف تكتيكي مرحلي تنقضي علاقتهما بإنقضاء المرحلة أو الأجل، ولا يمكن بحال من الأحوال لواشنطن أن تتجاهل الرياض، أو ربما من الأصح أن نقول ليس بمقدورها ذلك لأجل قضية عابرة حتى لوكانت كبيرة كقضية خاشقجي، فما بين الدولتين من القضايا والمصالح الحيوية الحساسة أكبر من أية قضية أخرى مهما علا شأنها، فبالأمس تركيا وبعد الجفاء الذي حصل بينها وبين السعودية إثر مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية بإسطنبول وتدهور العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التي وصلت لدرجة القطيعة بينهما بشكل غير مسبوق، وللأهمية الكبيرة التي توليها أنقرة للرياض باعتبارها ركن ركين لايمكن الإستغناء عنها في شبكة العلاقات الدولية التي تحرص أنقرة أن تكون الرياض بموقع متقدم فيها، ولأجل هذا فقد قامت المحكمة العليا في أنقرة بنقل قضية خاشقجي معتبرة -أي المحكمة- أن السعودية هي ذات المرجع في هذه القضية، وبطبيعة الحال فقد لاقى قرار أنقرة هذا ارتياحاً كبيراً لدى صانع القرار السعودي، وعلى إثر ذلك تحسنت العلاقات بين البلدبن بشكل لافت حيث قام بعدها وبفترة قصيرة الرئيس أردوغان بزيارة السعودية، والتقى بالعاهل السعودي الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد، الأمر الذي جعل علاقة البلدين تعود إلى سابق عهدها بل ربما تتطور أكثر بكثير مما كانت عليه.
لاشك أن قضية خاشقجي بالنسبة للرياض قد سببت لها حرجاً شديداً، ومأزقاً ماكانت تريد أن توضع فيه، ولا تريد أن تكون بموضع المتهم، وهي ستجد نفسها بمواجهة أي دولة تجعل من نفسها المدافع عما جرى لخاشقجي، فالرياض تريد أن تطوي هذه الصفحة نهائياً، وهي على استعداد لقطع علاقاتها ليست مع دولة واحدة فقط أو دولتين، فهي مستعدة على قطع علاقاتها بدول تتخذ من قضية خاشقجي منبراً لمحاربتها أو للتهجم عليها، وربما هذا كان أحد الأسباب، إضافة لأسباب أخرى التي جعلت ولي العهد السعودي يرفض مكالمات من الرئيس الأمريكي جو بايدن، على الرغم من محاولات البيت الأبيض ودون جدوى لترتيب محادثات هاتفية بين الرئيس الأمريكي بايدن وولي العهد السعودي، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن حشد دعم دولي لمواجهة روسيا واحتواء وترويض أسعار النفط الجامحة، التي وصل سعر “الغالون” اليوم في أمريكا إلى 5 دولارات ويزيد، طلبت واشنطن من الرياض زيادة إنتاجها من النفط، ولكن الرياض رفضت ذلك وأبدت التزامها بخطة أوبك ومجموعة المنتجين بقيادة روسيا.
ففي انتقاد لسياسة واشنطن من دعم جماعة الحوثي والتفاتها عن دعم الرياض وأبو ظبي، ربط الدبلوماسي الأمريكي السابق كيغل فيرناندير عبر حسابه في تويتر على خلفية موقف واشنطن الداعم للحوثيين والإيرانيين ،”بأن هاتين الدولتين العربيتين الغنيتين بالنفط الإمارات والسعودية لاتُظِهر تقديرهما؟ يا لها من مفاجئة صادمة”.
واشنطن والرئيس بايدن ربما يكون تأثراً بما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الصغير، عندما قال وهو يحشد ضد العراق لغزوه: “من ليس معنا فهو ضدنا”، وبنفس هذا المنطق تعمل واشنطن اليوم، وهي تصرح بأنها ستعيد ضبط العلاقات مع الرياض، وضبط العلاقات لن يمر وقضية خاشقجي لا تزال تُنظر من قبل واشنطن، لسان حال بايدن وإدارته أنه إن لم نكسب الرياض إلى جانبنا فسيكسبها حتماً من هم ضد أمريكا والقصد هنا روسيا والصين.
كقاعدة في السياسة لا شيىء ثابت، فجميع الأمور خاضعة للتحرك، وربما الثابت الوحيد فيها هو المصالح الاستراتيجية التي تبقى قِبلة الدول التي تتغير بل و تدور حيث تدور مصالحها، وهذا مالمسناه حقيقة في اختلاف تصريحات ومواقف الإدارة الامريكية من السعودية سابقاً عن مواقفها وتصريحاتها المتداولة عنها اليوم.
ختاماً.. اليوم وعلى خلفية الإضطرابات التي أحدثها غزو روسيا لأوكرانيا تعمل واشنطن بشتى الوسائل على إعادة الدفىء إلى علاقتها مع السعودية التي مرت وكما لمسنا بمرحلة غير مسبوقة من الفتور والتدهور، وهنا يأتينا السؤال الذي لابد من طرحه: هل سيستطيع الرئيس جو بايدن من خلال زيارته للرياض في الشهر المقبل إعادة الدفىء لعلاقتهما وإذابة جليدها وتصبح مواقف واشنطن من قضية خاشقجي دقيقاً تذروه رياح المصالح؟