في أيلول/ سبتمبر الماضي وقُبيل لقاء بوتين – أردوغان الذي ناقش الملفّ السوري بشكل أساسي، رأى الأخير أنّ النظام السوري يمثّل خطراً كبيراً على الحدود الجنوبية لبلاده، وأبدى أمله في أنّ نظيره الروسي سيقدّم الكثير في هذا الملفّ، معتبراً خوض النضال المشترك في الجنوب الذي يريده "حوضاً للسلام" شرطاً للتضامن.
وتبدو أنقرة أكثر تمسّكاً بأهدافها في سورية، الأهداف التي تتمثّل بضمان أمنها القومي عبر منع إنشاء كيان انفصالي على حدودها الجنوبية شمالي سورية، والحيلولة دون وقوع مأساة إنسانية جديدة ستؤدّي إلى موجات هجرة جديدة في ظلّ أزمة هجرة تعيشها تركيا وتنعكس على الأوضاع الداخلية انعكاساً كبيراً، وفي أحدث فصولها الهجرة الأفغانية عبر الحدود مع إيران.
أمّا على المدى البعيد فترمي تركيا إلى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من النفوذ بأشكاله المختلفة في سورية، وليس بمعزل عن تلك الأهداف تبرز أولويات أنقرة في المرحلة الحالية، أولويات كشف عنها عضو مجلس الأمن والسياسات الخارجية بالرئاسة التركية برهان الدين ضوران في تعليقه على أحاديث دارت عن تطبيع العلاقات بين بلاده والنظام السوري خاصّة بعد الكشف عن لقاء أمني قريب يجمع الطرفَين في بغداد.
"لا تُوجِّه تركيا نهجها في الصراع السوري حالياً نحو إسقاط النظام، وبدلاً من ذلك تهدف إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين بطريقة كريمة وقطع الطريق على الكيان الإرهابية YPG و PKK ". هكذا صاغ ضوران أولويات بلاده، معتبراً التطبيع مع النظام بلا جدوى في هذا الإطار.
ولتحقيق تلك الأهداف، تستمرّ المساعي التركية لإنشاء منطقة آمنة على طول حدودها داخل الأراضي السورية بعمق يتراوح بين 30 – 40 كيلو متراً، بذلك تكون أتمّت حزاماً أمنياً خالياً من التشكيلات التي تصنّفها على قوائم الإرهاب، لما تمثّله من خطرٍ على أمنها القومي وتهديدٍ قوّض الكثير من مساعيها الداخلية لحلّ المشكلة الكردية بعد نجاحات.
وترى القيادة التركية أنّها تستطيع من خلال هذه المنطقة تحقيق قدر كافٍ من الأمان للسوريين الرافضين لحكم النظام والهاربين من بطشه، مع إمكان تهيئة المنطقة لعودة مئات آلاف اللاجئين الذين لا يأمنون العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها، خشية بطش وانتقام أجهزته الأمنية أو لسوء الظروف المعيشية، مع انسداد أفق الحلّ السياسي.
لكنّ أنقرة تصطدم في أهدافها هذه مع واشنطن بإدارتها الجديدة التي تميل نحو دعم "قسد"، كما مدّدت حالة الطوارئ الوطنية الخاصة في سوريا، ويشمل التمديد استمرار العقوبات التي فرضتها على أنقرة إبّان عملية "نبع السلام"، في ظلّ توتّر مستمرّ بين البلدَين على خلفية صفقة S400 الروسية، وإلغاء تسليم طائرات f35 لأنقرة، مع إيقاف دورها في برنامج التصنيع لهذا الجيل من الطائرات، وليس آخراً إلغاء اللقاء الذي كان مقرّراً بين الرئيسَين بايدن وأردوغان في واشنطن على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أمّا عن رياح روسيا فلا تسير كما تشتهي سفن أنقرة جنوباً، ولعلّ أشدّ تلك الرياح في "حوض السلام" المنشود تركياً هو نظام الأسد الذي يتذرّع بوتين وجوقته بـ "شرعيته" للسيطرة على جميع الجغرافية السورية. وتحاول الدبلوماسية التركية إظهار نوعٍ من المرونة لتجنّب هيجان الدبّ الروسي، لكنّ تلك الدبلوماسية لا تستطيع تجاوز حقائق تؤمن بها، من قبيل العداء والخطر الكبير الذي يمثّله النظام على أمنها القومي، وهو ما عبّرت عنه القيادة التركية غير مرّة.
عداءٌ تفشل معه موسكو في إقناع القيادة التركية بأنّ سيطرة النظام على الشمال السوري سيعني إبعاد خطر التنظيمات الانفصالية، إذ تستحضر أنقرة توجيه بشار الأسد أوامر بتسليم مناطق شاسعة لتلك التنظيمات عام 2012 دون أيّ مقاومة، وهذا ما أعلن عنه رئيس الوزراء المنشقّ رياض حجاب الذي كان على رأس عمله حينها، وهو ما قد يكرّره في أيّ صفقة تحقّق له مصالحه في البقاء والهيمنة وابتزاز الإقليم والعالم.
ولا تنسَّ تركيا احتضان النظام لعبد الله أوجلان طوال 19 سنة كان يدير خلالها العمليات الإرهابية التي أودت بحياة آلاف الأتراك بدعم مطلق من حافظ الأسد، الأمر الذي سعى النظام لتكراره عبر دعم ما يسمّى بـ"الجبهة الشعبية لتحرير إسكندرون" وذراعها العسكري الذي يقوده معراج أورال مهندس تفجيرات الريحانية وصديق أوجلان، إضافة لاستمرار النظام ومن خلفه روسيا وإيران بدعم "قسد" في مواجهة تركيا وإفشال مساعيها.
وحتى لو تجاوزت أنقرة تلك الحيثيّات فكيف لها أن تطمئنّ للنظام الذي تعهّد مع الروس على إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود مع الأردن والجولان المحتلّ منذ توقيع اتفاق الجنوب (درعا والقنيطرة) عام 2018م ولم تجد تلك التعهّدات طريقها إلى التنفيذ؟ وإذا كان الحال كذلك فكيف ستضمن تركيا قيام النظام بإبعاد الميليشيات الانفصالية من الشمال -كما تزعم روسيا التي طالبت بسيطرته المطلقة على تلك المناطق- وهي (تركيا) تعرف حاجة النظام إلى لعب تلك الورقة للاستمرار في ابتزازها؟!
ثمّ إنّ خسارة تركيا للشمال السوري ستعني بالضرورة فقدانها لورقة المعارضة السورية التي تدعمها وتريد من خلالها أن تحافظ على قدر مقبول من النفوذ في سوريا، ولهذا تجدّد أنقرة تأكيدها أنّ الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية هو الممثّل للشعب السوري، وهو ما قاله وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو عقب لقائه رئيس الائتلاف الجديد ورئيس الهيئة العليا للمفاوضات ورئيس الحكومة المؤقتة قبل أيام من قمّة سوتشي، في رسالة واضحة للروس تؤكّد فيها أنقرة خِياراتها، وهو ما لم يَرُقْ لموسكو التي زادت على إثرها من رسائلها النارية في إدلب ومناطق السيطرة التركية شمالي حلب.
ويرى مستشار الأمن والسياسات الخارجية التركية ضوران أنّ فشل دمج المعارضة السورية في الحكومة المستقبلية لسورية سيؤدّي إلى ضياع جهود بلاده هناك، لكن لا يمكن لأنقرة أن تفرض رؤيتها تلك دون الضغط على النظام، وهو ما دفع أردوغان للتلويح بالعصا قائلاً: "سنخوض جميع أشكال الكفاح اللازم ضدّ التنظيمات الإرهابية في سوريا، وكذلك ضدّ قوّات النظام، ونحن عاقدون العزم في هذا الخصوص".
تصريحات الرئيس التركي أعادت للأذهان العملية العسكرية التي خاضها الجيش التركي تحت اسم "درع الربيع" مطلع عام 2020 إثر مقتل 33 جندياً تركياً وانتهاء المهلة التي حدّدها أردوغان حينها لانسحاب قوّات النظام إلى حدود اتفاق سوتشي 2018م، عملية أدت إلى نزيف خطير في قُدرات جيش النظام السوري، نزيف دفع بوتين للتدخّل وتقديم عروض مُغرية لأنقرة، ما دفعها لإيقاف المعركة، إلا أنّ موسكو لم تنفّذ ما تعهّدت به.
تتجدّد الضرورات التي دفعت تركيا إلى القيام بعملية "درع الربيع" كما صاغها أردوغان حينها "تركيا اضطرت لاتخاذ خطوات ميدانية ملموسة من أجل ضمان أمن حدودها وأداء واجبها الإنساني، ودعم الحلّ السياسي في سورية"، فالحدود التركية تعرّضت للاستهداف بالقذائف من مناطق تخضع لسيطرة النظام و"قسد" في تل رفعت، مع كارثة إنسانية تلوح في الأفق جرّاء استمرار تصعيد النظام وحلفائه على مناطق السيطرة التركية، ما يعيد شبح موجات اللجوء عبر الحدود، في حين بدأت جولة جديدة لمفاوضات "الدستور السوري" في جنيف.
فهل ستجد أنقرة نفسها مجدّداً في مواجهة النظام؟ إذ يهدّد باجتياح إدلب ويحشد على أطرافها، مع استمراره في مساندة ميليشيا "قسد" في مدينة تل رفعت التي استُهدفت منها القوّات التركية أكثر من مرّة خلال الأسابيع القليلة الماضية بدعم روسي، وإرسال المزيد من الحشود الإيرانية إليها (تل رفعت)، ردّاً على المناورات التركية الأذربيجانية في إقليم نخجوان على الحدود الشمالية لإيران، أم إنّ للدبلوماسية رأياً آخر يحول دون تلك المواجهة التي قد تُنتج كُرة نار يصعب تصوّر حجم تدحرجها؟ خاصّة في ظلّ تعدّد الجبهات وامتدادها من القرم حتى القوقاز مروراً بليبيا وشرق المتوسط، وفي ظلّ مفاوضات روسية تركية تتجاوز التعاون الاقتصادي والعسكري إلى قضايا تتعلّق بموقع الأخيرة من التنافس على السلطة والنفوذ في عالم يتغيّر ربّما نحو نظام دولي متعدّد الأقطاب.