نفّذت إيران هجوم 29 تموز/ يوليو الانتحاري بطائرة بدون طيار على ناقلة النفط الإسرائيلية ميرسرستريت، والذي أسفر عن مقتل اثنين من طاقمها أحدهما بريطاني والآخر روماني في بحر العرب، وكان الهدف من ذلك الهجوم هو إلحاق إصابات بشرية وأضرار مادية، وفقاً لتقرير استقصائي من القيادة المركزية الأمريكية. في حين أن طهران نفت في أن يكون لها أي يد في الضربة، وألقت مجموعة السبع دول الكبرى باللوم مباشرة على إيران، وتوعّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين بـ "الرد الجماعي".
يبدو أن هذا الحادث هو الأحدث في سلسلة من عمليات التخريب البحري التي تمّ تنفيذها منذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في أيار/ مايو 2018، والتي أعقبها إعادة فرض العقوبات على إيران، بما في ذلك فرض عقوبات على صادرات النفط الإيرانية. ووقعت عدة هجمات على ناقلات نفطية في خليج عمان في عام 2019، لكن لم ترد أنباء عن وقوع إصابات أو أضرار كبيرة. يبدو أن الهدف من وراء هذه العمليات المضبوطة، كما قال الرئيس حسن روحاني آنذاك: "إذا أرادوا يوماً ما منع تصدير النفط الإيراني، فلن يتم تصدير أي نفط من الخليج الفارسي". يبدو أن إيران تريد إثبات أنها تستطيع بسرعة -وبدرجة عالية من الإنكار- تحويل الطرق البحرية الهادئة عادة إلى مياه مضطربة إذا لم يتم الاعتراف بمصالح طهران الاقتصادية والجيوسياسية.
تصعيد نووي
إلى جانب التصعيد الإقليمي، وضعت إيران أيضاً خطة من خمس مراحل لتقليل التزاماتها النووية بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة بين أيار/ مايو 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020. ومع ذلك، لم يؤدِّ تعطيل تدفّق النفط من الخليج الفارسي أو الحدّ من التزاماتها النوويّة إلى دفع إدارة ترامب للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات عن إيران. بعد فوز المحافظين في الانتخابات البرلمانية في شباط/ فبراير من عام 2020، اكتسب التصعيد النووي الإيراني قوّة جديدة. فقد أقرّ المجلس التشريعي الجديد قانوناً في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2020 يسمّى "خطة العمل الإستراتيجية لرفع العقوبات وحماية مصالح الأمّة الإيرانية"، والتي تتطلب من السلطة التنفيذية تعزيز البرنامج النووي للبلاد. كان تخصيب اليورانيوم بنسبة 20٪ فأعلى، وزيادة التخصيب والقدرة على التخزين، وتركيب الجيل السادس من أجهزة الطرد المركزي، وإنتاج معدن اليورانيوم، وتعليق عمليات التفتيش بموجب البروتوكول الإضافي، من أهم أحكام ذلك القانون.
وسط وضع معقد، طبّق الرئيس روحاني آنذاك القانون بأمل وخوف وأعرب عن قلقه من أن خرق خطة العمل الشاملة المشتركة يمكن أن يغيّر بشكل جذري سياق المفاوضات مع إدارة بايدن القادمة، أو ينفر أوروبا، أو حتى يؤدي إلى عمل عسكري من قبل إدارة ترامب أو إسرائيل ضد المنشآت النووية الإيرانية. ومع ذلك، كان هذا الأخير مستمراً بالفعل بطريقة مختلفة. فبعد عملية سحب أرشيف نووي كبير وسرّي للغاية من طهران في أوائل عام 2018 من خلال عملية سرّية، اتهمت إسرائيل إيران بالسعي سرّاً للحصول على أسلحة نووية وبدأت سلسلة من عمليات التخريب السرّية ضد منشآتها النووية.
ألقت الجمهورية الإسلامية باللوم على إسرائيل بينما قلّلت في نفس الوقت من إخفاقاتها الاستخباراتية ووصفت حوادث التخريب بأنها حوادث ثانوية لن توقف تطوير البرنامج النووي. في غضون ذلك، احتفظت إيران بحقّها في اتخاذ إجراءات متبادلة ضد جميع المتورّطين في العمليات التخريبية. بعد الإبلاغ عن الهجمات على السفن الإسرائيلية في خليج عمان وبحر العرب في الأشهر الأولى من عام 2021، أصبح من الواضح تدريجياً أن القتال حول البرنامج النووي الإيراني قد تطوّر إلى صراع ثنائي جديد متبادل بين طهران وتل أبيب.. وكشف نائب الرئيس آنذاك إسحاق جهانجيري أن هناك أيضاً حملة تخريب إسرائيلية ضد ناقلات النفط الإيرانية بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الإيراني: لقد دمّروا أو أتلفوا 12 ناقلة نفط لدينا. وأكدّ جهانجيري أن إسرائيل سترسل شخصاً إلى ناقلتنا و تفجّرها.
كان تقييم الجمهورية الإسلامية خلال إدارة روحاني هو أن الإسرائيليين قد تشجّعوا بسبب حملة "الضغط الأقصى" التي شنتها إدارة ترامب ضد إيران. لذلك، ركّزت سياسة طهران على الاستفادة المحدودة من البرنامج النووي، ومنع انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة، وممارسة ضبط النفس ضد العدوانية الإسرائيلية، على أمل أن يقوم رئيس ديمقراطي جديد في واشنطن بعكس مساره بسرعة وإنهاء الوضع المدمّر. لقد فشل هذا الأمل، فلم تمتنع إدارة بايدن من العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة فحسب، بل ظلّت عقوبات إدارة ترامب كما هي ولم تَسْعَ الولايات المتحدة وأوروبا إلى كبح جماح إسرائيل عن تنفيذ المزيد من العمليات التخريبية المتعلّقة بالأسلحة النووية ضد إيران.
حقبة جديدة ونهج جديد
من وجهة نظر الجمهورية الإسلامية، على الرغم من فشل طهران في ترجمة التصعيد النووي إلى إنجازات ملموسة، بما في ذلك تخفيف العقوبات، إلا أنها لن تسترضي إسرائيل بعد الآن خلال رئاسة رئيسي. وكان استهداف ميرسرستريت ومقتل مواطنين أوروبيين بمثابة رسالة مفزعة في هذا الصدد. أشارت إيران أيضاً إلى أنه إذا لم تقم أوروبا والولايات المتحدة بكبح جماح إسرائيل، فمن المحتمل أن تنظر إليهما كـ "متواطئين" أيضاً في تعريض برنامجها النووي ومصالحها الاقتصادية للخطر. أصدرت وكالة "نور نيوز"، التابعة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، مؤخراً تحليلاً موجزاً حول قرار البنتاغون بنقل إسرائيل من منطقة مسؤولية القيادة الأوروبية الأمريكية (EUCOM) إلى القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، وخلصت إلى أن واشنطن والدول الأخرى ذات الصلة مسؤولة عن تلك العمليات الإسرائيلية "الخبيثة" و "المعادية" في المنطقة.
تعتقد الجمهورية الإسلامية أنها تمتلك قدرات استخباراتية متطوّرة وتركّز بشكل خاص على أمنها الداخلي واستقرارها. ومع ذلك، فإن قدرة إسرائيل على التنازل عن المنشآت والوثائق شديدة السرّية، قد أثارت شكوكاً بين كبار المسؤولين السابقين، بل ودفعت بالإيرانيين العاديين إلى الاستهزاء بمنظمات الاستخبارات الوطنية. على سبيل المثال، حذّر وزير المخابرات الإيراني السابق علي يونسي من مستوى "التسلّل" من قبل الموساد وقال: "يجب أن تهتمّ سلطات الجمهورية الإسلامية بحياتهم". عِلاوة على ذلك، حتى الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، زعم أن "المسؤول الأعلى في وزارة الاستخبارات المكلّف بمواجهة الجواسيس والعمليات الإسرائيلية، هو نفسه عميل لإسرائيل". كما ألمح إلى سحب وثائق من رئيس مكتب وكالة الفضاء الإيرانية، لكنّه لم يشر بشكل مباشر إلى دور إسرائيلي في العملية.
على الرغم من أن إيران غير قادرة على الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية للرّد بنفس الطريقة، إلا أن السفن الإسرائيلية في البحر يمكن أن تكون "أهدافاً ملائمة" لطهران لتضربها، واستعادة جزء من مصداقيتها الاستخباراتية المفقودة في أعين المراقبين الداخليين والنخب والإيرانيين العاديين. تفضّل طهران في الغالب أن تستمر الحرب مع تل أبيب في الظلّ أو (الخفاء)، وليس على الأرض الإيرانية. مثل ما يجري في سورية بين الجانبين، فإن الظلال توفر مساحة أكبر للمرونة أو الإنكار أو ضبط النفس في الرد. خلاف ذلك، ستضطر إيران إلى اللجوء إلى الخيارات الأخرى المتاحة للحفاظ على "توازن انعدام الأمن". أظهرت حادثة ميرسرستريت مدى سرعة الخروج من الظل وأن التلاعب بتوازن انعدام الأمن يمكن أن ينتهي باضطراب إقليمي وعالمي.
ومع ذلك، فإن استعادة المصداقية والهيبة لم تكن المنطق الوحيد وراء سلوك إيران. يوفر البرنامج النووي وخطة العمل الشاملة المشتركة لطهران قدرة ومستوى معينين من التصعيد والضغط ضد الغرب. بعبارة أخرى، تحتاج إيران إلى استخدام الفروق الدقيقة والمهارة لتحقيق التوازن بين زيادة القدرة النوويّة وعدم اتهامها بالسعي للحصول على سلاح نووي. لكن الحفاظ على مثل هذا التوازن يتطلّب بنية تحتية ومنشآت نوويّة جيدة الأداء ومحميّة للغاية وآمنة. إن العمليات الاستخباراتية مثل التخريب والتجسس واغتيال العلماء قادرة على تعطيل حسابات إيران الدقيقة. إلى جانب ذلك، فإن الوضع الاقتصادي المتردّي لطهران ومواردها المالية المحدودة تجعل إصلاح الأضرار المفترضة أو إعادة بناء المنشآت النوويّة أكثر صعوبة.
ما هو القادم؟
أوضحت حادثة ميرسرستريت إصرار إيران على إنشاء مستوى جديد من الردع ضد إسرائيل، وأظهرت أن تبادل الرد يمكن أن يكون قاتلاً ويجعل اللعبة أكثر خطورة. كانت تلك رسالة ليس فقط لإسرائيل، ولكن أيضاً لحلفاء الولايات المتحدة الإقليميين الآخرين بعدم السعي وراء مصالح منفصلة في الملف النووي الإيراني مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية. في حين أن طهران قد تكون نفّذت عملية جريئة ومتهوّرة مع تداعيات محتملة لا يمكن التنبؤ بها من الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن تطوّراً في سورية قبل ذلك بوقت قصير ربما طمأنها وأقنعها بالمضي قدماً. قبل تسعة أيام من حادثة ميرسرستريت، في 20 تموز/ يوليو، اعترضت أنظمة الدفاع الجوي الروسية وأسقطت سبعة صواريخ من أصل ثمانية أطلقها الإسرائيليون على أهداف في محافظة حلب السورية. وفقاً لصحيفة عربية مقرها لندن، نقلاً عن مصدر روسي "مطّلع" لم تذكر اسمه، فإن رد روسيا النادر على الغارة الإسرائيلية كان "مرتبطاً بشكل مباشر" بالقمة الأولى بين فلاديمير بوتين وجو بايدن، والتي "تلقّت موسكو خلالها تأكيداً" أن واشنطن لا ترحب بالغارات الإسرائيلية المستمرة ". وهكذا، تولّد لدى الجمهورية الإسلامية انطباع بأن رئيسَيِ الولايات المتحدة وروسيا، على المستوى الإستراتيجي، بدآ في التشكيك في تصرفات إسرائيل العدائية ضد إيران، وخلق فرصة لطهران لإثبات "وجودها" في هذه الأثناء.
ليس من الواضح ما إذا كان السيد بايدن لا يزال يفضّل الإجراءات الإسرائيلية السرّية لتقويض البرنامج النووي الإيراني أو كيف سيتعامل مع حرب سرّية بين إيران وإسرائيل كعامل إفساد في تحقيق صفقة طويلة الأجل ومستدامة بين طهران والغرب. هناك انتقادات متصاعدة لإسرائيل من قِبل روسيا "لزعزعة استقرار" المنطقة، وأثيرت شكوك، خاصة منذ رحيل بنيامين نتنياهو، من قِبل خبراء الأمن القومي الإسرائيلي البارزين حول العلاقات مع موسكو والمخاطر التي تشكّلها إستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط على مصالح إسرائيل.
يشير كل هذا إلى أن روسيا قد تذهب إلى أبعد من ذلك في دعم رد الفعل الإيراني العنيف ضد إسرائيل، لا سيما أن التوافق الأمني الإقليمي الروسي الإيراني سيحصل على بُعد مؤسسي وبنيوي جديد من انضمام إيران الذي يلوح في الأفق إلى منظمة شنغهاي للتعاون في عهد رئيسي.
المصدر: معهد الشرق الأوسط
ترجمة: عبد الحميد فحّام