قبل أيام بدأ لبنان جولة مفاوضات أولية مع صندوق النقد الدولي على أمل أن يحصل الاقتصاد المتعثر على مبالغ مالية تُخرجه مما هو فيه، حيث بدأ لبنان الدخول في أزمة اقتصادية ربما تكون الأكبرَ بعد الحرب الأهلية منذ آذار/مارس 2020.
بعد أن أعلن رئيس الوزراء السابق حسان دياب عدم قدرة بلاده على سداد القروض المترتبة في ذمتها وطالب الدائنين بإعادة التفاوض، وقد أتى هذا الإعلان بعد مظاهرات واسعة في عموم لبنان استقال على إثرها رئيس الوزراء سعد الحريري أواخر 2019 عقب مقتل وإصابة متظاهرين وفشل التوصل إلى حلول سياسية واقتصادية ممكنة للخروج من الأزمة حيث جاء في خطاب استقالة الحريري آنذاك: "لبنان وصل إلى طريق مسدود ويحتاج إلى صدمة للخروج من الأزمة".
لم يحدد الحريري ملامح تلك الصدمة التي قد تسبب العلاج ولكن لبنان صُدم سريعاً بانتشار فيروس "كورونا" في البلاد والذي أرخى ظلاله على شكل إغلاق شِبه تامّ وهروبٍ لرؤوس الأموال الأجنبية، ثم صُدم مرةً أخرى بانفجار مرفأ بيروت في أب/ أغسطس 2020 المنفذ الرئيسي للبلاد على العالم ومصدر دخل آلاف الأُسَر والمؤسسات والذي تورِّدُ مداخيله قطعاً أجنبياً لمصرف لبنان مُستنزف المخزون من النقد الأجنبي، ليستقيل رئيس الوزراء حسان الدياب ومَن معه من فريق حكومي، ويفشل مصطفى أديب بتشكيل حكومة تكنوقراط، ويتخلى الحريري عن تشكيل الحكومة بعد تكليفه بوقت قصير، ورغم وصول ميقاتي لخلطة حكومية بعد جولات جبارة أفضت لتوافُق الفرقاء السياسيين، ظهر الخلاف بينهم على تنحية المحقق العدلي في أحداث مرفأ بيروت ثم خلافٌ أخرُ على خلفية تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي ضدّ السعودية، وما لبس ميقاتي أن رتّب أوراقه الحكومية إلا وشهدت منطقة "الطيونة" في بيروت -ضِمن سياق ارتفاع منسوب التوتر الاقتصادي والسياسي- اشتباكات ذكّرت الجميعَ بأحداث الحرب الأهلية اللبنانية، بالنتيجة لم تستطع الحكومة أن تقوم بالكثير ولم تُفِدْ مغازلاتها للخليجيين ولا تقرُّبها من الفرنسيين ولا رجاؤها للأمريكيين إلا بمزيد من الوعود. وصل معظم المجتمع اللبناني إلى دون خط الفقر وانهارت الليرة اللبنانية ولم ينجح الرئيس عون إلا في البقاء مكانه بعد دعوات الإطاحة به، كما فشلت محاولاته في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل للاستفادة من مخزون الغاز في سواحل البحر المتوسط.
أمام هذا المشهد الذي يدعو لليأس يبرز للبنان واللبنانيين أبرقة أمل -وهذا بحدّ ذاته أمر مشجع حيث لديهم أكثر من خيار؛ البريق الأول يأتي من صندوق النقد الدولي الذي يرغب بإقراض لبنان مليارات الدولارات مقابل عمليات إصلاح واضحة في المؤسسات الرسمية اللبنانية وضبط سعر الصرف وعمليات الإنفاق العامّ وحوكمة القرارات، ويعتقد أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً في الوقت الراهن حيث يبدو أن جميع الفرقاء موافقون عليه مبدئياً وفي الظاهر على أقل تقدير، وهي خطوة بدأت مفاوضات حولها مع الصندوق فعلياً.
بريق الأمل الثاني يأتي من المبادرة الخليجية التي قدمها وزير الخارجية الكويتي إلى ميشيل عون، والتي تركز على تنفيذ اتفاق "الطائف" والتأكيد على حيادية لبنان وحصر السلاح بيد الدولة وكفّ يد الحزب عن التدخل في شؤون العالم العربي ودول الخليج وإيقاف عمليات تهريب المخدرات إلى الخليج العربي، وبالمقابل يُتوقع أن دول الخليج يمكن أن تقدم دعماً سخياً للبنان للخروج من أزمته الاقتصادية وإعادة الوضع إلى الاستقرار.
وبعد انفجار مرفأ بيروت اختفى المسؤولون اللبنانيون تقريباً وظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بين الناس وفي وسط بيروت، وكان ماكرون قد حمل للسياسيين مبادرة من 40 بنداً عمادها إجراء إصلاحات جذرية في البِنْية السياسية والاقتصادية للبلاد، ورغم أن المبادرة الفرنسية راعت التوازنات بين الأطراف وأكدت على تشكيل حكومة تكنوقراط إلا أن الواقع رفض المبادرة رغم أنها ما تزال مطروحة.
الأمريكيون أيضاً كان لهم نصيب في إعطاء اللبنانيين بريقاً من الأمل بمنحهم حق استجرار الغاز عبر خط الغاز العربي الذي يمر بسورية قادماً من مصر، ومنحهم أيضاً حق استجرار الكهرباء من الأردن، ورغم استكمال الإجراءات النظرية لهذا الأمر إلا أن كثيراً من التفاصيل التي قد يدخلها الشيطان ما تزال عالقة في إطار التطبيق، فعلى سبيل المثال يصر حزب الله على استجرار النفط من إيران عبر سورية وهما دولتان عليهما عقوبات اقتصادية ولديهما أجندات مرفوضة لأطراف مختلفة في لبنان، كذلك فإن كلفة الوقود القادم من مصر والكهرباء من الأردن تحتاج إلى ممول مفترض لن يكون الحكومة اللبنانية التي تعاني الأمرَّيْنِ بالتأكيد.
إذاً أمام لبنان مسارات عمل اقتصادية تتمثل بقروض صندوق النقد الدولي وتوصياته الفنية، وبتبرعات دول الخليج السخية، وضمانات الدولة الفرنسية والأضواء الخضراء الأمريكية، وهو ما يمنح لبنان فرصة اقتصادية غير مسبوقة لإعادة الاستقرار على مستوى أسعار السلع والخدمات وسعر الصرف وضمان الإنفاق الحكومي على الفئات المتضررة.
وإعادة إنعاش قطاع الصحة والتعليم المتضرريْنِ من الأزمات الأخيرة إضافة إلى تبرعات كبيرة مفترضة لضبط الأمن، ولكن كل هذا مرهون بعملية إصلاح حكومي وتطبيق قوانين أكثر صرامة تحدّ من قدرة الفرقاء السياسيين على التدخل في المؤسسات العامة وتحصر خلافاتهم في الطاولة اللبنانية، فهل يستجيب الفرقاء لصوت الليرة اللبنانية المرمية على طاولتهم وينقذ الاقتصادُ ما أفسدته السياسة؟.