نداء بوست – محمد جميل خضر – عمّان
وَحّدَ هلالُ عيد الفطر العربَ والمسلمين كما لم يفعل منذ سنوات طويلة.
عملياً، تحتفل، هذه المرّة، تقريباً، جميع البلدان العربية والإسلامية اليوم الإثنين الثاني من أيار/ مايو 2022، بوصفه أولَ أيام عيد الفطر السعيد (الأول من شوال 1443 هجرية)، بعد أن كانت نشزت خمس دول عربية وإسلامية في صيامها بعد الباقين بيوم واحد، فصامت معظم الدول العربية والإسلامية يوم السبت الثاني من نيسان/ إبريل 2022 ميلادية، الموافق الأول من رمضان 1443 هجرية، وصامت بعدها بيوم (الثالث من نيسان/ إبريل 2022) زهاء خمس دول من بينها الأردن والمغرب.
في هذا السياق تحتفل، كما هو حال البقية أجمعين، دمشق عاصمة الأمويين وعمّان عاصمة الأردن بالعيد هذا اليوم. وفي كل مرّة يطل فيها العيد بوجهه الباسم، وهلاله المحمّل بوعود الخير والبركات، يُستنفر الحنين، وتعود إلى غرف الذاكرة أيام في البال، وتجري من فورها مقارنة ليست بدون معنى بين عيد هذه الأيام وأعياد محفورة في الذاكرة.
العيد في دمشق
للعيد في دمشق، كما يقول الروائي والمفكّر السوري المقيم في فرنسا خيري الذهبي، “أصول وعادات وتقاليد راسخة منذ مئات السنين، ولأن الشام كانت -ولا تزال- أرض الخير والبركة، فإن أهلها كانوا يخرجون مع تهليلات صلاة عيد الفطر المنبثقة من مآذن المساجد وخصوصاً الأموي صاحب التهليلات والتكبيرات الشهيرة الخالدة، من أصوات جوقة منشديه التي يتوارث أعضاؤها عضويتها أباً عن جد، ويكون أطرافها نجوماً برّاقة في المجتمع الدمشقي، وآخِرهم المنشد بلبل دمشق توفيق المؤذّن الذي ورث مهنة الإنشاد والأذان أباً عن جد، حتى حملت عائلته هذا الاسم”.
يقول الذهبي: “كان الأهالي ينهون صيام الشهر، ويستيقظون مع سحور اليوم الأخير مثل عادتهم، لينطلقوا مع صلاة الفجر إلى المقابر للزيارة، وزيارة الأجداد والآباء والأمهات والأحباب محببة في العيدين الفطر والأضحى، ويكثر في شوارع الشام باعة الآس في كل أسواق الخضار وأطراف المدينة قرب الغوطة وعلى بوابات المقابر، وكل حزمة آس تكون مشدودة بحبل صغير، يشتريها الأهالي من الباعة ويضعونها برفقة الزهور البيضاء وأصص الزريعة والريحان والمنثور على قبور الأحبة، فيقرؤون عليهم الفاتحة ويمسحون القبور بقماش نظيف ويعدّلون الشواهد الرخامية، وينظفون القبر من العشب الضار، ثم يجلسون قرب القبر ليحدثوا الميت عن أخبارهم، وأفراحهم وأحزانهم، وآخِر أخبار العيال والأقارب الذين لم يُقدَّر لهم الزيارة، ثم يتناولون القهوة والشاي الذي يصنعونه على عُجالة بين القبور عَبْر إشعال نار صغيرة من حطب الأشجار. وبعدها ينظفون كل شيء ويخمدون النار وينثرون الماء على التراب كي يخمدوا الغبار والأتربة، ويقفلون عائدين إلى بيوتهم، حيث يشتري رب الأسرة في طريق عودته اللحم واللبن، لتصنع ربة البيت أكلة بيضاء، لتتكلل سنة العائلة بالخير والتفاؤل. حيث يكاد المارة يشمّوا رائحة شياط اللبن واللحم الطازج من أغلب شبابيك بيوت دمشق والغوطة، وحتى بيوت جميع المدن والقرى السورية، استفتاحة يوم العيد بطعام بلون أبيض هو عادة محببة ومتكررة، ومنها الششبرك، والكبة لبنية، والشاكرية وغيرها من الأطعمة.
بعد الغداء تبدأ الزيارات العائلية، ويتأهب الأطفال لها بشدة، فكل كبير في العائلة سيضع في جيب الطفل مبلغاً بسيطاً من المال كعيدية تسمح له باللعب وشراء ما يحب من أطعمة السوق.
وبعد استراحة وقيلولة ساعتين، يندفع الصغار إلى الشوارع للعب بالمراجيح وألعاب العيد التي يكون أصحابها قد نصبوها في كل ساحة في الحي أو في القرية. وكنا نتابع معهم في طفولتنا تغييرات المجتمع وتطور المراجيح من ألعاب خشبية إلى حوامل معدنية، واندثار صندوق الدنيا، وحلول السينما البسيطة مكانه، سينما 8 ملم، أذكر أنني كنت أشاهد الحواة يراقصون الدببة السورية في الساحات مقابل بضعة قروش، وذكرت هذا الحدث بالتفصيل في روايتي “الجنة المفقودة”.
يوم العنايا..
الإعلامي السوري المقيم في الأردن شكري زين العابدين يتذكّر عيد بلدته حرستا قائلاً: “ونحن أطفالٌ كان كل شيء في العيد جميلاً وبرّاقاً وجاذباً للفرجة والفرحة والاستكشاف، بدءاً من تحضيرات ما قبل العيد أو حتى أحاديث الوالد والوالدة ونقاشاتهما حول ما يجب أن يُشترى من السوق وما يجب أن تصنعه الوالدة في المنزل”. كانت النقاشات تشمل، يقول زين العابدين المنشق عن إذاعة النظام، بما في ذلك موعد الذهاب للسوق “لشراء ثيابنا ومستلزمات الحلويات التي ستصنعها الوالدة في البيت”.
قبل العيد بيومين ثلاثة، كانت تدور أحاديث بين الوالد والوالدة حول ما يجب أن يُعطى للعنايا، والعنايا “هن النسوة القريبات من جهة الأب وجهة الأم مثل الأخوات المتزوجات والعمات والأرامل من ذوات القربى من الدرجة الأولى، فهؤلاء لهن حق بالعرف والعادة ليعطين نقوداً وحلويات وأحياناً كمية من اللحم والدجاج وغير ذلك، وبحسب الوضع المادي لكل عائلة”.
يقول زين العابدين: “في ليلة العيد (يوم الوقفة) كانت تُعقد سهرة عائلية من نوع خاص نتبادل خلالها الأحاديث والطرف والنكات والمقالب التي مرّت معنا أيام رمضان أو ما قبله يتخلّله ورشة من نوع خاص عناصرها الوالدة والأخوات والكناين لتحضير عجين الحلويات وخبز العيد. وقسم منهن يقمن بترتيب غرفة الضيوف وأخريات لكيّ الملابس والستائر. وهناك من الشباب مَن يرسله الوالد لشراء نبات الآس الذي سنضعه على قبور الجد والجدة ومن الأقرباء الأموات”.
التحضيرات للعيد كانت تبدأ، بحسب زين العابدين، قبل العيد بأيام، حيث يصبح البيت ورشة يتوزع الجميع فيها المهام والواجبات “كلٌّ حسب ما يعرف ويتقن، والكل يؤدي دوره حسب ما يأمر به الوالد أو الوالدة، بمنتهى الرضا والحب، والأهم بروح جماعية تكافلية لو قدر وصورت تصويراً فوتوغرافياً أو بكاميرا تلفزيونية لكانت تحفة حكائية تسجيلية تصور تراثاً شعبياً يوثق التراث المادي والشفوي الذي يتخلله الكثير من التراثيات والمرويات الشعبية الجميلة والمفيدة والمسلية التي أساسها وعنوانها الأسرة العربية المتكاتفة المتضامنة وهي تميز مجتمعنا العربي عن غيره من المجتمعات”.
يقول زين العابدين: “العيد في الشام أيام زمان وحسب ذاكرتي المتعبة أي قبل خمسين عاماً كان له طعم خاص أو هكذا يقول كل جيل من أجيال الناس عمّا كان في طفولته وذكرياته.
وكباقي المدن السورية كانت تعقد أفراح العيد في الساحة الرئيسية، يبتهج الأطفال بكل ما خزنوه من فرح وحماس وتوثب لتفريغ كل شحنات الطفولة وشغفها للفرح والانطلاق للحياة واللعب وحتى العبث بالألعاب واكتشاف ما فيها. في ساحة العيد أو سوق العيد عوالم وصور ومشهديات أخّاذة حتى بفوضوية تموضعها.
صراخ الباعة وأصحاب الألعاب والمراجيح وأصوات الأولاد ومناداتهم بعضهم بعضاً لمشاهدة لعبة أو بسطة واحدة من أطعمة العيد ومشروباته المميزة، من العصائر ذات الألوان الزاهية الجميلة الأحمر والأصفر والأخضر والبنّي، المصنوعة من الليمون والتمر الهندي وماء الورد أو ماء الزهر الملوّن بألوان شتى.
أما بسطات وعربات الأكلات والأطعمة الساخنة فحدِّث ولا حرج، مثل بسطات وعربات الفول النابت والبليلا (الحمص المسلوق) وما أشهى المرقة بعد أن نأكل الفول أو الحمص وننتظر حتى يسكب لنا زبدية المرقة التي يضع عليها البائع عصير الليمون والملح ورشة الكمون، فاحتساؤها و”التمزمز” بشربها له نكهة واستمتاع من نوع خاص جداً”.
زين العابدين يتذكر مشهديات بعينها من مدينته حرستا متطرقاً لمقهى العم أبو صطيف لوزة “هذا المكان المخصص للكبار الذي له في نفوسنا كصغار رهبة حيث يجتمع أعيان البلد ومخاتيرها وشيوخ الشباب، وإذا صادف ومررنا من أمامه نمر مسرعين ونسترق النظر لداخله خلسة وبداخلنا رهبة واحترام للجالسين فيه وهم يتحدثون ويتسامرون ويشربون النرجيلة والقهوة والشاي”.
يقول: “فجأة، وبالعيد فقط، يصبح هذا المكان مسرحاً وصالة للسيرك الشعبي، فيه حيوانات مفترسة وطيور عجيبة بالنسبة لنا بذاك الوقت وفيه مصارع أو كما يطلقون عليه شمشون العرب وكان للعرب شمشون وأغلبهم لا يعرف شمشون التاريخي وقصته.
ندخل هذا المقهى لنتفرج بقروش قليلة بمدة لا تتجاوز الربع ساعة ليخرجونا ويدخلوا فوجاً آخر من الأطفال”.
في ذاكرة زين العابدين الطفولية الخاصة بالعيد “قصص وحكايات كثيرة، منها ما هو مفرح ومنها، أحياناً، ما هو ميلودرامي”.
بكثير من الشوق للماضي والحنين إليه، يروي زين العابدين ذكرياته عن عيد أيام زمان، ويتوقف عند رحيل الوالدين الذي يحوّل العيد إلى أشجان ذكرى مشلوعة الفؤاد: “فَقْد الأب فَقْد كبير جداً، وأما فَقْد الأم فلا تتسع لوصفه قراطيس الحبر والحروف جميعها”.
زين العابدين يختم بالقول إن حديث العيد وذكرياته “يحتاج إلى وجود أهل وأحبة وأصدقاء وجيران يتذاكرون معاً مختلف تفاصيل ومنمنمات اللوحة الإنسانية التي جمعتهم، وبهم ومن خلالهم ومعهم يعيش المرء كل حيواته وأفراحه وأتراحه. وهذا غير ممكن الآن، بسبب ما حلّ بسورية وإنسانها، فالوطن الحقيقي هم الناس الذين نعيشهم ونعيش معهم، وهم وحدهم مَن يصنعون الحياة والتاريخ وكل شيء وكل عيد… فالعيد هو الإنسان الحر بالوطن الحر. وكل عام وأنتم بخير”.
عيد الحارات العمّانية..
بيوت الحارات العمّانية التي كنا ننام فوق أسطحها، المزدانة بدالية العنب، المتفاخرة بالتوتة العجوز، الطافحة بثمار الأسكدنيا، تلك كانت بيوت أعيادنا السعيدة. في حاكورتها وفسحتها الواسعة، يمكث خروف العيد بيننا أسابيع ممتدة، تصل لأكثر من شهرين في بعض الأحيان، تتوطد علاقة متينة بيننا وبينه، تصبح مسألة التضحية به بدل سيدنا إسماعيل شائكة، حتى بالنسبة لأبوين (لا يفكّان الحرف). يبدأ التحايل، التبرير، محاولة فك الارتباط بوسائل شتى.
لا بد من المراجيح كي ينسى الصغار محنة رحيل صديقهم الخروف. المراجيح وفساتين الصبايا قصة أخرى من حكايات النوستالجيا المفعمة بالشجن العصيّ على التدجين. كان أبو العبد يربطها لهنّ بحبل الوقار (اللعين) فلا نرى إلا ما ينبغي لنا أن نراه.
براءةٌ ممزوجةٌ بالوهج الشقيّ، والشقاوة الولهانة، المرتاحة على صدر أمٍّ تمتص مثل الإسفنجة كل تعبٍ تدير لعبة الأيام نحونا حصتنا منه
ذاكرة المراجيح محصنة بحنينٍ لا يخون، ترتبط بوجدانية مكانية وزمانية، تلتقي حولها البلاد العربية جميعها تقريباً
يتذكر علاء يوسف العيد في عمّان أيام زمان. ويروي كيف كان وثُلّة من الأصدقاء يتهيؤون له
ويعدد يوسف (57 عاماً) خياراتهم فيه بدءاً من سهرة الليلة التي تسبقه، خصوصاً في عيد الفطر الذي كان يأتي أواخر سبعينيات القرن الماضي في أشهر الصيف “نهايات آب/ أغسطس ومطالع أيلول/ سبتمبر”
وبالنسبة ليوسف المقيم في أمريكا منذ عام 1984 يأخذ التذكر شكل حنين موجع مرتبط بالانقطاع عن مفردات الماضي وصيرورة الحاضر وأفق المستقبل: “كنا نتجمع بعد الإفطار بانتظار إعلان العيد، وحين يزف لنا التلفزيون البشرى نذهب لملعب حديقة اليوبيل الفضي في وادي صقرة من دون أن تقف وسيلة الوصول حائلاً بيننا وبين مباهجنا قبل أن نتوجه إلى قاع المدينة وتحديداً إلى أحد الحمامات العامة القريبة من سينما الحمرا في سقف السيل”، ولا يتوقف برنامج ليلة العيد بالنسبة ليوسف وباقي أصدقائه عند هذه الفقرات، فتناول المأكولات الشعبية من حمص وفول وفلافل في (مطعم هاشم) يشكل جزءاً من برنامجهم الذي كان يمتد حتى الصباح كما يواصل يوسف حديثه الوجداني “كانت الأشياء أكثر بساطة وتحقيق الأحلام الصغيرة أكثر إمكانية” يعلق موضحاً أن فقراتهم لم تكن تتطلب توفر سيارة حيث كانوا كما يؤكد يتنقلون بالوسيلة المتاحة حتى ولو كانت السير على الأقدام
وبعد فقرة المطعم كانوا يذهبون إلى المقبرة فمعظمهم لهم أموات هناك من الدرجة الأولى
وبعد المقبرة حسب يوسف الذي حرص ألا ينسى تفصيلة مرتبطة بالعيد أيامهم كانوا يؤدون صلاة العيد في الخلاء المقابل لمخيم الحسين أو في الجامع الحسيني ومع ارتفاع صوت التكبيرات وصعود الخطيب للمنبر كان النعاس يبدأ بالتسلل إلى أجفانهم التي لم ترَ النوم طيلة الليلة المعبأة بحماسهم وأفراحهم وإقبالهم الشبابي خالي البال على المناسبة وما تعنيه لهم
ويوضح يوسف أن تعب ليلة العيد كان يحول بينهم وبين مشاركة آبائهم أو إخوتهم الكبار وأعمامهم الزيارات الصباحية في أول أيام العيد وما تحمله من صلة رحم وواجب اجتماعي ديني يتمسك به الناس حتى يومنا هذا “كنا نعوّض ذلك بتأدية الزيارات الضرورية للشقيقات المتزوجات وبعض العمات والخالات ثاني أيام العيد”
وعن الذكريات الأبعد في الزمن يروي يوسف ذهابهم لمراجيح العيد في الخلاء واستئجارهم للدراجات الهوائية من محل أبو عبدالله, وصعودهم (الدويخة) التي كان الأولاد أشجع من البنات في ركوبها وأخذ شوط عليها بقرش أو قرشين قبل أن تصبح بـ (شلن) أي خمسة قروش في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. ويكشف يوسف أن الصبايا الصغيرات كن أكثر استمتاعاً بالمراجيح من الأولاد خصوصا عندما كن يتمنطقن بحبل مطاطي (مغيظ) حول تنانيرهن وفساتينهن مانعات طيرانها في الهواء وتاركات أقرانهن يلعقون حسرة الخيبة والارتباك
محمد القيسي يؤكد أن العيد يعني له راحة ضرورية بعد أيام من السهر في مخيطة والده لتفصيل ملابس العيد للزبائن من الجنسيْن، حيث كانت والدته صبحية متخصصة في حياكة الملابس النسائية، فيما والده صبحي متخصص بالرجالي منها، حيث ظهر واضحاً ما أراده من ذكر اسم والديه للمفارقة الطريفة الناتجة عن زواج خياط اسمه صبحي من خياطة اسمها صبحية، وتكوينهما لعائلة مكونة من عشرة أفراد لم يعمل جميعهم في حقل الخياطة والملابس، كما يورد القيسي (56 عاماً)، الذي تنقّل بين أكثر من حقل استثماري وحرفي، قبل أن يعود أخيراً لعمل والديه
ويتذكر خالد الشياب (57 عاماً) ذهابهم للسينما أيام العيد وما له من خصوصية تختلف عن ارتيادهم لها في الأوقات الأخرى “كان الذهاب إلى السينما في العيد يشبه احتفالية يشارك فيها كثير من أولاد الحارة ونظل حتى وصول باب إحدى (سينمات) وسط عمّان مختلفين حول الفيلم الذي سنشاهده, هل تختار فيلما هندياً لأميتاب باتشان وراجي كابور, أم نتابع أحد أفلام الإثارة في إحدى صالات سقف السيل, أم نكتفي بأحد أفلام فريد شوقي ورشدي أباظة”
ويذكر الشياب أنهم كانوا قليلي المتابعة لأفلام الكاوبوي لاقتصار المميز منها على سينما الرينبو أو الخيام التي لم يكن بمقدورهم دفع ثمن تذاكرها
وعن إمكانية السفر أيام العيد يؤكد عمران هداية أن ذلك كان متعذراً لأسباب مالية واجتماعية حتى بعدما وصلوا أبواب الثامنة عشرة، وكل ما يتذكره في هذا الصدد أنهم استطاعوا مرّة بعد تحضيرات شاقة ونقاشات طويلة وموسعة مع أهاليهم الذهاب إلى العقبة خلال عيد الفطر قبل 22 عاماً وما عاشوه أيامها من فرحة البحر وبهجة الاستيقاظ الصباحي وتناول الفطور المبكر على شاطئ غندور وشرب بعضهم (الأكثر تمرداً) للأرجيلة على ذات الشاطئ مع فنجان قهوة عقباوي نديّ. ويروي بحبور كيف تمكنوا من إقناع أحد أصحاب المراكب الزجاجية بأخذ…………
جولة بسعر زهيد مع إمكانية الصيد وأخذ ما يصيدونه من أسماك لهم, ويسترسل هداية (58 عاماً) في سرد القصة موضحاً أن موافقة مالك المركب تيسرت بسبب أنهم كانوا أول زبائنه لصباح أراد أن يكون طالع رزق “متفائلاً بنا كشباب مندهشين فرحانين بما حولنا”.
ويختم هداية حديثه بقصة السمكة المميزة التي استطاع واحد منهم صيدها واندهاش الصياد من حدوث ذلك مؤكداً أنها “سمكة من نوع نادر ومرتفع الثمن وذات لحم أبيض طري لذيذ ولا يصادفها صيادو خليج العقبة إلا كل أربعة أو خمسة أشهر”.
ويشير هداية كما فعل قبله الشيّاب ويوسف إلى الفروقات بين عيد أيام زمان وأعياد هذه الأيام، متأمّلين، بنضوج من ولج العقد السادس من العمر، تبدُّل الأحوال وتقلّب الأيام.
أصل حكاية “المراجيح”
بحسب صفحة “فاروق مصر”، فإن أصل حكاية “المراجيح” تعود لأيام الفراعنة، كما توضح بعض الرسومات على الجدران في المعابد الفرعونية، حيث كانت المرأة الفرعونية ترافق زوجها إلى الحقل، وتضع رضيعها داخل قطعة قماش، وتربط كل طرف بجذع شجرة، وتهزها كالأرجوحة عندما يبكي.
للأرجوحة حكاية أخرى، رومانية هذه المرّة، مفادها أن إله الخمر باخوس (عند اليونانيين ديونيسيوس Dionysus) غضب في إحدى سنوات الجدب على مزارعي العنب (الكرمة) بسبب تقصيرهم، وأمرهم أن يقوموا بألعاب بهلوانية صعبة تعرض حياتهم للخطر، ومن ضمن تلك الألعاب، التأرجح الفردي أو الجماعي على حبل معلق بين شجرتين. بعد ذلك اتخذت الأرجوحة رمزاً روحانياً ودينياً مقدّساً في الأعياد والمناسبات.
الأرجوحة رفيقة الشعراء، تحليق مفعم بأغاني الأعياد في زمن مضى: (علّيها بنجدد.. وطّيها بنبطّل)، و(دبّوس ألماس.. يويا.. يغرس في الراس.. يويا)، وبمجرد أن تلمح شقيقتي خالي فهمي قادماً نحو بيتنا، تسمعه أغنية سميرة توفيق: (يا خالي قرّب العيد.. بدّي منك عيدية)، لعلها لم تكن تعرف أن الأغنية لسميرة توفيق محبوبة كل الأردنيين أيامها، ولكنها كانت تعرف نتائج ترديدها جيّداً، يضحك خالي وينقّطها العيدية المشتهاة.
نوستالجيا تجعلني أتعلق بأرجوحة ساكنة خيام الروح، تلك الخيام التي لم تستطع فدوى طوقان نسيانها، حتى وهي تكتب شعراً للعيد: “أختاه هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ/ وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ/ وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا.. متهالكًا، يطوي وراء جموده ألَماً عتيّاً.. يرنو إلى اللاشيء.. منسرحًا مع الأفق البعيدْ”.
نوستالجيا قد تتركني أركض وراء أرجوحة في البال، حتى لو كانت هناك في الإكوادور، حيث يتداول الناس كلاماً عن “أرجوحة نهاية العالم”، المطلّة، عند سفحٍ جبليٍّ شاهق، على بركان تونغوراهوا النَّشِط غير المُستقر.
“أرجوحة بين نخل العراق القمر”، يذوب العراقي مظفّر النواب، عَبْرها، بكل النساء والأنهار والطيور والزغاريد. يتأمل الشرفات الذاهبة إلى الله بالياسمين، يترنّح مع زقزقات المطر، ويعيد تشكيل فراتٍ جديد ملوّنٍ بالزرازير والقبّرات.
إنها “أرجوحة الأحضان” كما تعنوِن الكويتية غيداء الأيوبي إحدى قصائدها.
في العدد (11) من مجلة “الثقافة الشعبية” البحرينية، تقدم كل من أميرة جعفر عبد الكريم وتهاني حسن المرخي، دراسة وافية حول الأرجوحة في الثقافة الشعبية العربية على وجه العموم، والبحرينية على وجه الخصوص. الدراسة التي حملت عنوان “المرجحانة في الموروث الشعبي القديم”، والمتضمنة لمحة تاريخية مسهبة، تورد عدداً من أسماء المراجيح، منها: مريحانة، زحلوقة، ديرفانة (الكويت وعُمان)، جاروف (عُمان)، مدرهة وتدورة (اليمن)، أُل، دوداة ومطوحة. وفي الموروث الشعبي الخليجي، كما يرد في الدراسة، فإن هناك أغنيات شعبية ترافق لعب الأطفال في العيد على المراجيح، منها أغنية (شوط العيدي) في حالة الشوط القصير: (شوط العيدي.. احمله وأزيدي)، و(شوط البطة) للمرجحة الأطول: (شوط.. شوط البطّة.. دور.. دور.. وانعل أبو من حطّه).
في حوار أجراه الشاعر السوري جوان تتر، مع الشاعر العراقي ناجي رحيم، ونشره موقع (ألترا عراق) بتاريخ 13 أيلول (سبتمبر) 2017، يصف رحيم العالم بـ “أرجوحةِ فِقْدان”.
الناقد والشاعر الأردني عبد الرحيم مراشدة، يستعيد في تقرير أعده لصحيفته “الدستور”، الشاعر والصحافي عمر أبو الهيجا، أجواء العيد أيام طفولته وشبابه: “كان هناك كثير من القيم التي تعد من المقدسات”. مراشدة يخلص إلى أن العيد فكرة من أجل الفرح و”الفرح أيامنا كان أكثر إقناعاً”.