مرت علينا سنوات نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، مُرةً وقاسية، لم يكن سبب ذلك يعود فقط إلى كوننا كشباب مندفع نعيش في سورية الأسدية، في بداية زمن الفجائع العربية، حيث يمكن لتقرير أمني يكتبه فيك زميلك في المعهد أو في الجامعة أن يحيلك إلى "ضيافة" أحد الأفرع الأمنية! بل كان ثمة أسباب أخرى، يمكن القول إنها فكرية، أو سياسية، ففي تلك الأيام، التي شهدت أكبر كوارث اليسار العالمي، حينما سقطت منظومة الدول الاشتراكية واحدةً تِلْوَ الأخرى، تحت تأثير البريسترويكا "إعادة الهيكلة" التي قادها غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي السابق، وسياسة الشفافية التي فتحت الباب على مصراعيه للتغيير، والتي تلتها ثورات متتابعة في تلك الدول، أنهت فعلياً سيطرة الأحزاب الشيوعية عليها!
على المستوى الشخصي، وضِمن الفضاء الذي كنت أتحرك فيه، بين الصحبة وزملاء الدراسة وغير ذلك، كان وَقْع تلك التغيرات صعباً، إذ كيف يمكن لي وأنا أؤيد الاشتراكية العلمية، أن أقبل بسقوط الأحزاب التي تمثلها، والتي حكمت بلادها بالحديد والنار طِيلة عشرات السنين! وفي نفس الوقت، أن أؤيد نَيْل القوى السياسية المغايرة حريتها، ووصولها إلى عَتَبات الانتقال السلمي للسلطة، عَبْر الانتخابات الديمقراطية؟! سأقرّب المسألة للقارئ العزيز، من خلال حدثيْنِ (مثاليْنِ) تعرضت فيهما للرضّ الفكري، أولهما كان مذبحة ساحة (تيان أن مين) في العاصمة الصينية بكين، عام 1989، والتي قامت فيها دبابات جيش التحرير الشعبي الصيني بسحق المحتجين المطالبين بالديمقراطية والإصلاحات تحت حديد جنازيرها، بعد أن بقي هؤلاء مرابطين ومعتصمين في مركز العاصمة بكين لمدة شهرين تقريباً، حتى وصول الأمر منتهاه، عَبْر مقتل أكثر من 10 آلاف متظاهر،
بحسب أرقام أعلن عنها أشخاص مقربون من الحزب الشيوعي الحاكم! وهنا كنت متعاطفاً مع الطلبة والمحتجين، الذي حُرموا من الحريات، وبالتأكيد، سأرى أن قوات الأمن الصينية، تشبه -من حيث البِنْية والتكوين والسياسات- المخابراتِ السورية، فالمواطن الصيني يشكّ بكل مَن حوله، ويخاف حتى من أخيه وزوجته، إن أعلن عن معارضة -ولو بسيطة- لتوجُّهات حُكام البلاد! بعد سنوات، سأزور الصين بدعوة رسمية من الإذاعة والتلفزة الصينية، وسأرى بعيوني وسأسمع بأذنَيَّ كيف تُدار البلاد، حيث يقف الإعلاميون مع رجال الأمن والسياسيين وغيرهم متضامنين ومتآزرين في صفّ واحد، لا ليغطوا على الرأسماليين الذين يستبيحون البلاد تحت مرأى ومسمع الجميع، بل ليقنعوا الجمهور الذي ربما لم يَعُدْ يَعنيه الأمر، بأن إدارة الحزب تمنح المواطنين رفاهية الطعام والشراب، وتقليد الثقافة الغربية، واستخدام كل أنواع التقنيات في العالم (عدا شبكات التواصل الاجتماعي كفيس بوك وغيرها) شرط ألا يتحدث أحد بالسياسة! وفي نيكاراغوا، وهي المثال الثاني هنا، التي قضيت بها فترة من مُراهَقتي (ويا لَبؤس تلك المُراهَقة) أتابع أخبار انتصارات جبهة ثوارها الساندينيين، وزعيمها دانييل أورتيغا، التي وصلت إلى السلطة عَبْر الانتخابات في عام 1985 وهي تقاوم التدخل الأمريكي بإدارة ريغان في شؤونها، إن كان عَبْر تمويل الفِرَق المسلحة لحركة الكونترا اليمينية، التي شاركت في الحرب الأهلية، والتي ستنكشف أسرار عملياتها بعد سنوات مع فضيحة (إيران غيت) *، أو عَبْر الحصار الاقتصادي الذي حوَّل حياة النيكاراغويين إلى جحيم! ستُصاب مسيرة الجبهة بانتكاسة في ربيع عام 1990، حيث خسرت الانتخابات أمام معارضيها، وعلى رأسهم الرئيسة فيوليتا تشامورو، التي أطنبت دعاية الأحزاب الشيوعية والاشتراكية ومنها حزب البعث السوري خلال فترة الانتخابات في إبراز عِمالتها للأمريكيين، ودعمها للإمبريالية في وجه الشيوعيين، وسأتذكر كيف كنا أنا وزملاء لي في المعهد العالي للفنون المسرحية نقرأ تفاصيل الانتخابات تلك، وكأن الطيور على رؤوسنا! مرحلة الرئيسة الجديدة (1990-1997) لن تمر هيِّنة عليها، مع ظروف ما بعد نهاية الحرب الأهلية، وتسلُّط الساندينيين على أجهزة الدولة، والبيئة المُهيَّأة للاشتباك في أي لحظة، بسبب سياسات اقتصادية واجتماعية هدفت إلى إعادة إحياء البلاد، لكن رغم ذلك لن يستطيع دانييل أورتيغا استعادة منصبه كرئيس للبلاد إلا بعد 16 سنة، حيث ستحمله انتخابات عام 2006، إلى القصر الرئاسي.
غير أن أورتيغا الثائر، الذي تعاطفتُ معه، لم يعد كما كان، بل صار ثقيل الظل، لا يمثل ثورةً، بقدر تمثيله لمصالح شريحة مستفيدة من السلطة، ومع مرور الوقت ستتلاشى نهائياً تلك "الجماليات" التي علقت بالذهن عنه، وخاصة بعد فضيحتين أخلاقيتين الأولى؛ تأييد الرجل وحكومته لنظام الأسد، ودعمه إياه في المحافل الدولية بوقاحة، منذ اندلاع الثورة السورية.
والثانية؛ الأخبار التي انتشرت في العام 2013 عن تقديم ابنة زوجته زولاميركا أورتيغا دعوى قضائية تتهمه فيها بالتحرش بها جنسياً منذ أن كانت في الحادية عشرة من العمر.
غير أن السياق الذي يتصل بهذا، ويجعلنا نتوقف عند قيمة هذه الفضائح، إنما هو تحول أورتيغا إلى ديكتاتور يجمع بين ملامح حكم حافظ الأسد، وملامح حكم بشار الأسد أيضاً، ومراجعة سياق قمعه للمظاهرات في العام 2018، وأيضاً حبسه للمرشحين المحتملين لخوض سباق الانتخابات ضده، يكشفان حجم الكارثة التي يشكلها الرجل وحزبه على نيكاراغوا.
هكذا ستنتهي بعض حكايات التعاطف الفكري، وستسقط بالنسبة لي ولكثيرين غيري صور أي سلطة ينقحها ويزركشها الإعلام الحزبي الأيديولوجي، وسيصبح معيار تقييم أي حدث، موقف الفاعلين فيه من الحرية، حرية شعوبهم، والشعوب الأخرى، حتى وإن كانوا أقرب إلى الهوى الأيديولوجي، في حال كان قد بقي شيء من هذا!
• "إيران-كونترا" أو "إيران غيت"؛ مخطط سري تعتزم إدارة ريغان بمقتضاه بيع أسلحة لدولة عدوة هي إيران، واستعمال أموال الصفقة لتمويل حركات "الكونترا" المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا. (ويكيبيديا)