(..ولكنّ المشكلة في هؤلاء المشجّعين الذين يدّعون انتماءهم للثورة والحرية والكرامة، ثمّ يدعمون مَن يدعم القاتل من الرياضيين واللاعبين -وقد شاهدنا هذا في بطولة كأس العرب في قطر- فيشجعونه رافعين عَلَم سيده عالياً هاتفين بنجاحه، ويتفاعلون عَبْر وسائل التواصل الاجتماعي بالدعاء لمنتخب يمجّد الإجرام بالفوز، فإن سألتهم عن تصرفاتهم هذه يقولون: لا علاقة للرياضة بالسياسة).
يقول عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله: "لو كان الاستبداد رجلاً، وأراد أن ينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمّي الضرّ، وخالي الذلّ، وابني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة". ويقول أيضاً: "المستبد يودّ أن تكون رعيته كالغنم براً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً". وقال: "العوام هم قُوَّةُ المُستبِد وقُوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصبُ أموالهم ويحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يُمثّل يعتبرونه رحيماً".
إنّ هذا الوصف الدقيق الذي تناوله الكواكبي للمستبدّ، يُجسّد النظامَ السوري المجرم بحرفيته وبكلّ حِرَفيّة، فبعد سماع هذه الصفات بل رؤيتها على الحقيقة في الواقع الحياتي لا في السطور بين الصحف، كيف لإنسان عاقل أنْ يُصدّق هذا النظام الدموي المجرم ويؤمن به؟
إنّ النظام السوري الإجرامي هو نظام مُهيمن على جميع مفاصل الدولة وجزئياتها وتفاصيلها الدقيقة، نظام يقوم على التحكّم بكلّ شيء من مؤسسات وإدارات وتجمُّعات ونقابات وغير ذلك، نظام يُسيطر حتى على الأفراد وأفكارهم مهما كانت قيمتهم أو درجتهم الاجتماعية، تبدأ من البائع المتجول المسكين إلى حِيتان التجارة والمافيات، نظام لا يسمح لأيّ مُواطن أن يكون له رأي بمعزل عن فكرِ حزبه وحكمه، نظام يَقمع أيّ حريةٍ تُعارضُ أفكاره واعتقاده، نظام استبدادي محض بكلّ معنى الكلمة، بل لعلنا لا نجد كلمة في القاموس أبلغ من هذه الكلمة تناسب وصف هذا المخلوق المسرف في الإجرام.
لقد وَهِمَ بعضُ السوريين الذين يُنادون بتحييد السياسة عن باقي الشؤون الاجتماعية في بلدِهم، بلدهم المحكوم من قِبلِ نظام استبدادي ظالم وسفّاح، فمرّة يقولون: لا تُدخِّلوا السياسة بالفن، ومرّة أخرى يقولون: لا تُدخِّلوا السياسة بالدين، ثمّ يقولون: لا تُدخِّلوا السياسة بالتجارة والاقتصاد، إلى أن قالوا: إياكم أن تُدخِّلوا السياسة بالرياضة. فهم يُبررون لأنفسهم أنّهم يتعاملون مع تلك المؤسسة بعينها لا مع النظام، ولا علاقة لما تهواه أنفسُهم بسيدهم السفاح، فإمّا أنّهم يجهلون أن تلك المؤسسات هي أذرع للنظام تقوم بقيامه وتتكلم باسمه وتتنفس بهوائه، أو يعلمون ويتغاشمون كلّ ذلك.
إنّ عقليّة نظام العائلة الأسديّة قائمةٌ على فكر وحكم فردي لا يقبل بالتعدديّة الفكريّة، ولا بالآراء المختلفة أبداً، فالرأي الآخر المخالف يعدّه من المحظورات في البلاد.
فمثلاً المؤسسات الفنيّة من إعلام وصحافة وتمثيل وتوابعها ليس لها أيّ حياديّة أو خصوصيّة في الدولة، فلا يمكن لأيّ ممثل أن يَظهر ويلمع نجمه إلا إذا قام وتزلف وتملق مُتمسِّحاً بأعتاب الفروع الأمنية، مَادحاً القائد الأعلى للبلاد، شاكراً مَكرُماته وعطاءاته وإنجازاته، رافعاً صورته وعَلَمَه عالياً، وإلا فإنّ مصيره طوابير التهجير، أو زنازين الاعتقال، أو تشويه صورته وسمعته، بعد مسح ماضيه وتدمير مستقبله.
وأمّا المؤسسات الدينيّة، والكلّ يعلم مسرحية الأوقاف والإفتاء منذ خمسين سنة، فمعظم أصحاب العمائم (إلا المرحومين وهم القلّة النادرة) لا يَصعدون درجات المنبر حتى يُوافق هواهم هوى سادتهم في الأمن والمخابرات، فإن كانت أقلامهم سيّالة ماضية، وخطّهم جميلاً وواضحاً فسُرْعان ما يصلون إلى مآربهم، ولا يُسمح لأحدهم أن يفتح فمه إلا للوشاية على إخوانه الخطباء والأئمة وعموم النّاس، وكذا لمدح سيدهم والدعاء له، وأمام موائد الأطعمة الفاخرة والولائم العامرة.
وأمّا التجارة والاقتصاد فهي من لُبّ سياسة المستبد، فهو شهبندر التجار المتحكم بالأسعار، فيأمر البنوك ليفرغها، ويغير حاكميها ويعين المقربين من طائفته وعائلته، ويملأ خزائنه وحساباته في الخارج، ويصادر محلّات الصرافة، ويفرض الإتاوات والضرائب على التجار الصغار، ويبيع البلاد للمحتلين، مما أدّى إلى تدهور عُملته، وهروب التجّار والصناعيين، فلم يَعُدْ له وسيلة إلا أن يسرق قُوت شعبه الفقير المعدوم، ليسندَ ليرته واقتصاده المتهالك، وأمّا تجار النظام المقربين فما تزال تتسع أعمالهم وتزدهر أحوالهم فهم من شركاء العائلة الحاكمة ورؤساء الفروع الأمنية والضباط والوزراء.
ونأتي إلى علاقة الرياضة بالسياسة الأسدية، فالبداية بالاتحاد الرياضي العامّ وهو الراعي لجميع الرياضيين في سورية، حتى هذا المنصب لم يسلم من يد النظام فقد استأثر به وتأبَّطه، وجعل إدارته بيد شبيح، يقوم بالدفاع عن نظامه بالافتراءات والكذب، كيف لا.. وهو من أبناء طائفته؟
وعادة تكون هناك أندية تديرها قطاعات خاصة، والحال في سورية مختلف تماماً، فما يسمى بالأندية والفِرَق الخاصة (إن وُجدتْ) تسيطر عليها عصابة الأسد، بالإضافة إلى المدربين، وليس لأيّ منهم الحياد في الإدارة، ولا يملكون تنحية السياسة جانباً بعيداً عن الرياضة فهذا ليس بأيدهم، والأسوأ من ذلك أن النظام يتحكم بنتائج المباريات المحليّة كما يتحكم بنتائج الانتخابات، فيرفع الفِرَق التي يريدها وخاصة الساحلية ويخفض البقية، فيوعز للاعبين الخصوم بألا يكونوا جديين في اللعب، وحتى الحكّام لتكون النتيجة التي يختارها.
ومما يدلّ على تبعيّة لاعبي النظام له، ما رأيناه من العديد منهم حيث يحلفون باسم المجرم ويمتدحونه، وقد شاهدنا أكثر من مقطع مصوّر يَظهر فيه هجوم عنيف من بعض لاعبي فريق النظام على الجماهير المُعارِضة له، وخاصة عندما يرون الجماهير ترفع عَلَم الثورة، فينهال عليهم بالشتم والسبّ والضرب.
وكذلك فإنّ هناك كثيراً من لاعبي المنتخب يتمّ انتخابهم لا حسب خبرتهم ومرونتهم ومهارتهم بل حسب قربهم وتزلفهم لسيدهم الجزار، فهؤلاء ليس لديهم أيّ حياد في تعاملهم مع جمهورهم وشعبهم، ولا في تصريحاتهم ولقاءاتهم، فيصرّحون بفكرهم وآرائهم المؤيدة والممجدة للمجرم بكلّ وضوح.
ولا بُدَّ أن أُحرر هذه النقطة، فأنا لستُ مُصادِراً لرأي الرياضيين وغيرهم في ميولهم وأفكارهم وانتماءاتهم (مع أنّ شعبهم الحرّ يَعُدّهم من أدوات النظام وشبيحته)، ولكنّ المشكلة في هؤلاء المشجّعين الذين يدّعون انتماءهم للثورة والحرية والكرامة والعدالة، ثمّ تراهم يدعمون مَن يدعم القاتل من الرياضيين واللاعبين (وقد شاهدنا هذا في بطولة كأس العرب في قطر) فيشجعونه رافعين علم سيده عالياً هاتفين بنجاحه، وبعضهم يتفاعل عَبْر وسائل التواصل الاجتماعي بالدعاء لمنتخب البراميل بالفوز، فإن سألتهم عن تصرفاتهم هذه يقولون: لا علاقة للرياضة بالسياسة.
وللتذكير: فإنّ العَلَم الذي يرفعه ذلك المشجّع للفريق الأسدي هو نفس العلم المطبوع على طائرات المجرم وبراميله التي تقصف بيوت الآمنين ومساجدهم وأفرانهم ومستشفياتهم وأسواقهم، وهو نفس العلم المرفوع على دبابات السفاح وقاذفاته وراجماته التي دمّرتْ بلادنا، وهو نفس العلم الذي يتبناه مجرم الشام، وهو نفس العلم الذي رُفع فوق أجساد أطفالنا الممزقة في حمص ودرعا وإدلب وباقي المحافظات السورية، وهو نفس العلم المرسوم على أبواب زنازين وأقبية الاعتقال الأسدي التي غيّبتْ مئات الآلاف من أبنائنا ونسائنا، فكيف يليق بعاقل يدعي الإنسانية أن يرفع هذا العلم ويمجّد صاحبه المجرم السفاح؟!.
فإلى الواهمين الغافلين المُشجِّعين: أَفِيقوا من نومكم وسكرتكم.. واعلموا أن شعبنا السوري المظلوم في سورية لا يَنعم بأيّ حياديّة أو حريّة بمعزل عن السياسة، في جميع مؤسسات الدولة قاطبةً، بل وحتى الأفراد، فالبلاد المحكومة من المستبدين كياناتُها تابعة بشكلٍ مباشر للظالم وأعوانه، فيكتبون ما يمليه عليهم دون تَفكُّر أو تدبُّر، ويفعلون ما يأمرهم به دون اعتراض أو تردُّد، فذلك الوثن (بشار) متمثل قول فرعون لأتباعه في سورة غافر: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) غافر: 29.
يقول عبد الرحمن الكواكبي في وصفه للمستبد: "المستبدّ يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادتهِ لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رِجْله على أفواه الملايين من النَّاس يَسُدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمُطالَبته".