نداء بوست- مقال رأي – وليد النوفل
في 21 آذار/ مارس 2011، لم يكن لدي أنا ابن السادسة عشرة عاماً، معنًى واضحاً لـ”الحرية”، مع ذلك دفعني الفضول حينها أن أجري تجاه “ساحة البسام” قرب منزلنا وسط مدينة “إنخل” شمال درعا، لأرى جمع الشباب والرجال، وأردد خلفهم “من حوران هلت البشاير”.
بداية إدراكي لظلم السلطة
حينها اعتلى منبر الساحة عدد من رجال المدينة الريفية الصغيرة، أعرف بعضهم، منهم المدرس والشيخ والطبيب والعامل البسيط، كل كان يتحدث عن تجاربه مع أجهزة الأمن وعن سطوة المخابرات وظلم “البعث”، الحزب الذي كنت سأنتسب إليه بعد أسابيع، دون أن أُخير بالقبول أو الرفض، ودون أدنى معرفة بحقيقة هذا الحزب الذي تربيت في مدارسه أحد عشر عاماً.
للوهلة الأولى لم يستوعب عقلي شيئا أي ظلم يعيشه الناس في هذا الوطن، وهل يعقل أن أجهزة الأمن والجيش تقتل أهلها، ولماذا يقتل الناس في درعا البلد؟.
هذه الشهادات التي تروى لأول مرة على الملأ، وكذلك الأخبار الواردة من درعا البلد، خلقت في داخلي أسئلة عن تعريف الوطن، ودور أجهزته الأمنية والعسكرية، ومدى حرمة دماء مواطنيه وكرامتهم.
مظاهرتنا الأولى
في اليوم التالي وسط باحة مدرسة “الشهيد عقلة الزهرة” الثانوية في مدينتي، بدأت أردد أنا ورفاقي خلف صديقي الشهيد عبد الرحمن “حرية حرية”. حينها لم أكن أعي أنا وعبد الرحمن وبقية من هتفوا ما هي الثورة، وما الحرية، وما هي “مملكة الصمت” وأجهزتها الأمنية التي سمعنا عنها الكثير يوم أمس؟. ما أعرفه بأن “حمية الدم والإنسانية” حتمت علينا نحن الصغار أن نقول لا للقتل في درعا البلد.
بعد دقائق معدودة من هتافنا البريء، الذي بدأ وكأنه أشبه بتقليد لمظاهرة الرجال يوم أمس، احتشد المعلمون ومدير المدرسة على الأبواب الخارجية للمدرسة، ليمنعونا من الخروج، ويحاولوا تطويق هذه المظاهرة.
على الفور قرع الجرس قبل انتهاء “الفرصة”، عدنا للغرف الصفية، وبعد دقائق اقتحم مدير المدرسة وبعض الإداريين صفنا، وعلامات الغضب تبدو واضحة على وجوههم. أمر المدير بإخراج كل الذكور من الصف إلى غرفة الإدارة، على اعتبار أننا من حرض بقية الطلاب وأخرجناهم في المظاهرة، ثم بدأ يطلق عبارات التهديد والوعيد بجلب الأمن، وقال إنه سيقودنا وأهالينا إلى سجون المخابرات لـ”إعادة تربيتنا”، حسب وصفه.
إما سجيناً أو مخبراً!
وأمام عبارات الاعتذار والاستعطاف وبكاء البعض منا، قال أحد معاوني المدير “أنا سأكفلهم هذه المرة يا أستاذ على أن لا يعودوا لمثلها مرة أخرى”. ووافق المدير على ذلك، شريطة أن يتعهد كل واحد منا خطياً على عدم تكرار المظاهرة، وأن نكون عيوناً (جواسيس) له على بقية الطلاب الذين سيشاركون في مثل هذه الأعمال، أو التي وصفها حينها بأنها “تخريب وعبث بأمن الوطن، وقلة أدب”.
ولم يكن أمامنا حينها لدينا خيار آخر غير الموافقة على كل ما قاله، لنخرج مما نحن فيه.
إن هذه الحادثة التي جمعت بين مشاعر الخوف والظلم والقهر والابتزاز في أحسن الأحوال، شكلت لدي وقتذاك وعياً وتصوراً لـ”مملكة الصمت” التي أعيش فيها، لكن كنف الكبار وصغر السن ومصادرة الحريات هو ما كان يحول دوننا ودون حقيقة هذه المزرعة المسماة زوراً بـ”الوطن”.
وفي اليوم التالي حينما علم بقية الطلاب في المدرسة ما جرى معنا، خرجوا بمظاهرة شارك فيها غالبية الطلاب والطالبات، وقاموا بطرد المدير من المدرسة، ومنعوه لأسابيع من العودة إليها.
اليوم بعد أحد عشر عاماً ما أردت قوله من هذا كله، بأنه إذا كان أطفالنا حينها رفضوا الذل والإهانة، وأن يتم ابتزازهم لأجل كتابة تقارير ومكائد ببقية زملائهم، فكيف بنخبنا السياسية ومن يدعون أنهم نخبة المعارضة يكيدون لبعضهم وهم في خندق واحد يكافحون بطش النظام الأسدي الفاشي.
لا يسعنا في هذه الذكرى الحادية عشرة لانطلاق ثورتنا المجيدة، إلا ترديد ما قاله ثوارها الأوائل، “بولادك بتظلي قلعة”، وهذا الصوت لن يسكته مارقون.