يسود الترقب في شمال شرق سورية بعد حديث متكرر عن عملية عسكرية تركية وشيكة ضد مناطق سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد). وتزداد في هذه الأثناء التحركات الأميركية والروسية في سباق على النفوذ في هذه المنطقة الحيوية. وفي هذا الوقت يسيطر الارتباك على أداء القوة الكردية المسيطرة (بكل تشكيلاتها "مسد " و" قسد" و PYD و PKK وأسايش وإدارة ذاتية) وتخوفها من تطبيق النموذج الأفغاني في سورية وتخلي واشنطن عنها، ولذا تركز على فتح صلات مع روسيا ومحاولة إيجاد اختراق في مسعى محاورة النظام في دمشق. ويبرز ذلك في مواقف متناقضة أو توزيع أدوار بين أقطابها . لكنه يؤكد في مطلق الأحوال على ترسُّخ مأزق أخذ يرتسم بعد نهاية معركة "الباغوز" في مارس 2019.
وما ينطبق على الجانب الكردي المهيمن في منطقة نفوذه ينسحب بشكل أو بآخر على مناطق النفوذ الأخرى، ولن تنعم سورية بالاستقرار تحت وطأة التعسف الداخلي والوجود العسكري الأجنبي.
لا يعني التأجيل المحتمل للعملية التركية ضد "قسد" (على الأرجح لعدم وجود ضوء أخضر أميركي ورفض روسي) أو عدم تعديل الوضع القائم في شرق الفرات، على أن المعادلات لن تتغير على المدى المتوسط أو البعيد . ومن دون شك أن ربط مستقبل المكون الكردي في سورية بالمسألة الكردية بشكل عامّ، وخاصة بنهج حزب العمال الكردستاني، يمثل تحدياً مفتوحاً ورهاناً محفوفاً بالمخاطر. وفي مطلق الأحوال، لا يمكن للولايات المتحدة إلا الاعتناء بتوازن حسّاس بين أهمية تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي وهواجسها الأمنية من جهة، وبين مصير المكون الكردي وموقعه في سورية الغد من جهة أخرى. ولذا في الوقت الذي تفرمل فيه إدارة بايدن أي اندفاعة عسكرية تركية على غرار عملية "نبع السلام"، يصدر من أنقرة على لسان المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، السفير جيمس جيفري إشارة إلى أن "أنقرة لا تريد مغادرة سورية بسبب مخاوفها الأمنية". وقال جيفري: "من الطبيعي أن تدافع تركيا عن نفسها على طول حدودها، قضية حزب "العمال الكردستاني" قضية خطيرة للغاية، وهناك أكثر من 3 ملايين لاجئ على أراضيها إلى جانب 3 ملايين نازح في إدلب".
على صعيد موازٍ، تحظى كل منطقة الشمال السوري بالمتابعة الحثيثة من الجانب الروسي خاصة أن قمة "بوتين – أردوغان" أقرت استئناف تطبيق الاتفاقيات السابقة بخصوص الطريق الدولية "حلب – اللاذقية" ومنطقة إدلب، وعشية لقاء "تركي – روسي" مرتقب، الأسبوع القادم، في أنقرة أكدت مصادر تركية مطلعة أن "اللقاء سيحسم مصير عدة ملفات ومناطق شمال سورية، موضحة أن الطرفين سيناقشان إمكانية التوصل إلى صيغة تفاهُم بينهما بما يتعلق بكافة المناطق المحررة شمال سورية وليس فقط إدلب والطريق «إم 4»". وهذا يعني إمكانية حصول مقايضة بين تمدد النظام نحو إدلب مقابل تمدد تركي نحو بعض مناطق "قسد".
في الميدان، ارتفعت وتيرة التعزيزات العسكرية الأميركية الواصلة إلى مناطق سيطرة «قسد»، وترافقت مع وصول وفد أميركي برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، إيثان غولدريتش، إلى محافظة الحسكة، ولقائه مسؤولين من «قسد». وفي الموازاة نشهد مواصلة روسيا توسيع حضورها العسكري في الشرق السوري، وسط معلومات تفيد بأن ضُبَّاطاً روساً أنهوا نصب صواريخ «إس-300» داخل مطار "الطبقة" العسكري الخاضع لسيطرة «قسد»، فيما تُخطِّط موسكو لإنشاء نقاط مراقبة في ريفَيْ دير الزور الشرقي والغربي. وكل هذا يُدلِّل على السباق المحموم "الدولي – الإقليمي" لتثبيت النفوذ في الشمال والشرق السوري.
في مواجهة هذا الوضع يبدو أن قيادة الحزب الكردي النافذ الموجودة في "جبل قنديل"، تقوم بتحريك الأحجار على رقعة الشطرنج الإقليمية. وعندما نراقب تصريحات الجنرال مظلوم عبدي من "قسد" عن "الضمانات الأميركية" التي لم يؤكدها البنتاغون، أو تصريحات رياض درار من "مسد" والقائد العسكري ألدار خليل باتجاه الانفتاح على تسوية مع دمشق لم تلقَ التجاوب المرتجى من النظام أو من موسكو، نستنتج مأزق الارتباك الإستراتيجي عند الإدارة الذاتية الكردية. ويكشف مصدر معنيّ أن "هناك محاولات اتصال بين حزب الاتحاد الديمقراطي (من أكراد سورية على صلة بحزب العمال الكردستاني) مع القيادة التركية من دون نتيجة حتى الآن".
نتيجة التردد الروسي (أو عدم الرغبة) في ترتيب تفاهُم بين النظام و"قسد"، وإمكان قيام إدارة بايدن بالانسحاب من سورية تبعاً لنموذج التراجع من أفغانستان.. ولذا تزداد الخشية عند حيز كبير من الأكراد السوريين وهؤلاء يأخذون على قياداتهم أنهم لم يتعظوا من تجارب الماضي، حيث كانوا دائماً الطرف الخاسر في لعبة الأمم. وتسلط لعبة القوى الخارجية في شمال شرق سورية على متوالية تاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى قضى بأن يكون الأكرادُ الخاسرين الدائمين في لعبة الأمم داخل الشرق الأوسط. بَيْد أن وحدات الحماية الكردية وقوات سورية الديمقراطية لا تنتظر قطف ثمار قيامها بالقتال الطويل والمكلِّف ضد "تنظيم الدولة الإسلامية"، لأنه بعد استنفاد هذه الوظيفة المحددة سيكون مستقبل منطقة نفوذ الحزب الكردي المهيمن رهن عوامل متعددة ولا يستبعد نجاح "الحلف الإقليمي المقدس" ضد النزعة الاستقلالية الكردية في طمر الرهان، ولو في حده الأدنى بإقامة إدارة ذاتية ضِمن سورية موحدة، وذلك بعد إفشال استفتاء كردستان العراق حول الاستقلال.
زيادةً على صراع الإرادات من أجل السيطرة الخارجية، يجد الأكراد السوريون أنفسَهم عالقين بين خيارات سياسية صعبة؛ إذ إن تيار "الحزب النافذ" الذي يقوم بتمثيلهم والدفاع عن مطلبهم الديمقراطي والتعددي، لكنه يربطهم بحزب يقوده كرد تركيا، ويضعهم بما لا يمكنهم تحمُّل أعبائه، في مواجهة مباشرة مع الدولة التركية. ويتمدد المأزق نتيجة تهميش القوى الكردية السورية الأخرى، والخشية من فصائل المعارضة السورية المرتبطة بأنقرة أو من السيطرة التركية المباشرة.
والأَدْهَى أن نُدوب وآلام مرحلة سيطرة وحدات الحماية الكردية وقوات سورية الديمقراطية على مناطق عربية، لن تُمحَى آثارها بسهولة، كما نشير إلى الثمن الباهظ الذي دفعه الكرد في سورية من قِبل السلطة أو خلال العَقْد الماضي.
لا بد في نهاية المطاف من انضواء الجميع في مشروع وطني ديمقراطي يعطي الأولوية للمُوَاطِنيَّة ويحترم التعددية الثقافية والعرقية والدينية ويبقى الخيار للسوريين في شكل النظام الإداري نحو اللامركزية الموسعة والجهوية الطابع أو الاتحادية الواضحة المعالم.
بالفعل هناك قضايا ومطالب واقعية للحركة القومية الكردية في سورية، ويتوجب وضعها تحت السقف الوطني وفي الإطار الأشمل ضِمن منهج الاعتراف بالآخر، علماً أن على الجميع الإدراك أن المسألة السورية هي مَن أعقد المسائل إقليمياً وعالمياً في ظل نفوذ كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، والتي لها كلها كلمتها في القضية السورية.