تتعالى أصوات بعض المعارضين وكتاباتهم بخصوص انتقاد أعمال اللجنة الدستورية، منها ما يحتوي على مخاوف وهواجس وطنية، ومنها ما يحاول شَخْصَنتها وشنّ حملات تستهدف أعضاءها، هذا ما يدفعنا إلى مراجعة تلك الانتقادات والنظر في تاريخ العملية السياسية ومساعي قوى الثورة والمعارضة وإستراتيجيتها وتكتيكاتها التفاوضية خلالها والإشارة إلى التفاصيل الحاسمة، فهل قراءة ذلك التاريخ بموضوعية تساعدنا على استخراج الدروس والعِبَر منها والأخطاء التي ينبغي عدم تكرارها؟
إن الجهود العربية والإقليمية لإيجاد حل سياسي عادل يؤدي إلى تحقيق مطالب الشعب المشروعة والسلام بدأت مع بدايات انطلاقة الثورة السورية المباركة في العام 2011، بدءاً بمبادرتَي الجامعة العربية، ومن ثَم المبادرات المشتركة للجامعة العربية والأمم المتحدة، وتعيين الراحل السيد كوفي عنان الأمين العامّ السابق للأمم المتحدة كأول مبعوث مشترك لهما إلى سورية، حيث أطلق مبادرة خطة النقاط الست، ومن ثَمّ دعوته لمجموعة العمل الدولية من أجل سورية إلى مؤتمر جنيف الأول الذي صدر عنه بيان ختامي بتاريخ 30/6/2012 بعد عدة أشهر توصل المبعوث المشترك إلى قناعته بعدم إمكانية تنفيذ البيان دون دعم دولي ودون وجود أي نوايا حسنة لدى النظام تجاه أي حل سياسي مما دفعه لتقديم استقالته عبر رفض التجديد لفترة تفويضه.
عُين بعده السيد الأخضر الإبراهيمي آخِر مبعوث مشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية، أثناء فترته ارتُكبت أكبر جريمة إنسانية بحق المدنيين حين قصف النظام الغوطة بالأسلحة الكيميائية، مما أدى لسقوط المئات من الضحايا والأبرياء، وأصدر مجلس الأمن القرار رقم 2118 في عام 2013، وتبنى القرار بيان جنيف كاملاً وطالب بعقد مؤتمر دولي في جنيف من أجل تحقيق السلام في سورية، هذا المؤتمر الذي عقدت أول جلساته في أوائل عام 2014، وانتهى بعدم تحقيق أي تقدم، بسبب رفض النظام لبحث تشكيل هيئة الحكم الانتقالي كأول موضوع تفاوضي كما نصت على ذلك المادة 16 من قرار مجلس الأمن 2118.
واصل الإبراهيمي جهوده بعد فشل المؤتمر إلا أنه وجد نفسه أمام نفس النتائج والقناعات بانقسام المجتمع الدولي التي توصل إليها سلفه، مما دفعه إلى الاستقالة، ثم تلاه المبعوث الخاصّ للأمين العامّ للأمم المتحدة إلى سورية السيد ستيفان ديمستورا وكسابقه وجد نفسه مضطراً للاستقالة، كل تلك المبادرات والجهود الدولية انتهت إلى الفشل بسبب عدم وجود أي نوايا للحل السياسي لدى النظام في دمشق، وعدم وجود التوافق والإرادة الدولية اللازمين لحل يقضي بإنفاذ القرارات الدولية الخاصة بسورية.
بعد استقالة المبعوث الدولي ديمستورا عُيِّن مكانه السيد غاير أ. بيدرسون، الذي حاول المضي قدماً حيث انتهى سلفه، ووجد أن النافذة الممكنة التي من الممكن أن تفعّل العملية السياسية وتكون مفتاحاً لها -وبالتالي مستقبلاً- هندستها هي العملية الدستورية حيث كانت تحوز تلك الفكرة على توافُق دولي وإقليمي باعتبارها إسهاماً في العملية السياسية وفي تطبيق كامل القرار ٢٢٥٤ الصادر في عام ٢٠١٥، نجح المبعوث الخاص في إنجاز المفاوضات والاتفاق بين النظام وهيئة التفاوض السورية على تشكيل اللجنة الدستورية في أواخر عام ٢٠١٩ واعتُبر ذلك كأول اتفاق سياسي ضِمن إطار تنفيذ إحدى قضايا قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤.
ذات القراءة التاريخية أوردها الرئيس المشترك للجنة الدستورية هادي البحرة مجملها تطرق إليه في تساؤلات ماذا حدث عندما بذلت قوى الثورة والمعارضة المتمثلة في الهيئة العليا للمفاوضات أقصى جهودها للضغط باتجاه تنفيذ البنود الإنسانية في قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ بخصوص إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين عندما رفضت بَدْء المفاوضات في جنيف قبل تنفيذ البنود الإنسانية والتي اعتبرتها "ما فوق التفاوضية" حيث بقيت العملية التفاوضية تراوح مكانها بين التجميد والعطالة الدولية لفترة تقارب العام والنصف؟ أي خلال الفترة من عام ٢٠١٥ إلى أواخر عام ٢٠١٧.
هل أدى ذلك التجميد إلى إطلاق سراح المعتقلين أو معرفة مصير المغيبين؟
هل تم تحقيق وقف إطلاق نار شامل؟
هل تم فك الحصارات؟
الإجابة على أعلاه: لا، بل إن تجميد المفاوضات قابله إهمال المجتمع الدولي للعملية السياسية وأعطى الضوء الأخضر لتكثيف الحملة العسكرية الروسية والإيرانية خلال تلك الفترة وبدأت المناطق المحاصرة تقصف بهمجية لإخضاعها، مما وضع الفصائل العسكرية تحت ضغوط كبيرة دفعتها لإيجاد مسارات تفاوُضية منفردة لإنقاذ المدنيين ضِمن مناطقها وانطلق مسلسل اتفاقيات المصالحات والتسويات بين الفصائل والنظام في تلك المناطق خارج إطار القرارات الدولية، كما تم إحكام الحصار على حلب وسقوطها في أواخر العام ٢٠١٦، وفتح مسار "الأستانا" الجديد لينتزع الملفات العسكرية والأمنية خارج إطار العملية السياسية بما سُمي اتفاقيات خفض التصعيد.
لم يؤدِّ تجميد المفاوضات إلى تنفيذ البنود الإنسانية في قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ ولا إلى وقف إطلاق نار شامل ولا إلى الحد من تسارُع خسارة السيطرة على المناطق ولا لمنع سقوط حلب، كما أنه لم يؤدِّ إلى تحفيز مجلس الأمن ولا الرأي العامّ لدفع المجتمع الدولي للضغط نحو اتخاذ إجراءات لإنفاذ القرار الأممي عن طريق الفصل السابع أو لفرض تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، فهل كان قرار تجميد المفاوضات حكيماً؟ أم أنه استُغلّ من قِبل الدول ذات المصالح المتبادلة والمتباينة للتوصل إلى توافُقات جديدة كادت أن تؤدي إلى القضاء الكامل على مطالب وتطلعات الشعب السوري التي ثار وضحى من أجلها، كما أنها أدت إلى قيام عدة فصائل عسكرية منضوية ضِمن الهيئة العليا للمفاوضات وتحت ضغط العدوان على المدنيين ضِمن مناطقها إلى فتح خطوط تفاوضية مع روسيا خارج إطار الهيئة العليا للمفاوضات وكل فصيل على حِدَةٍ دون تنسيق بينهم ولا تمثيل سياسي يوحدهم في العملية التفاوضية على الرغم من وجوده متمثلاً في الهيئة العليا للمفاوضات، مما أدى إلى شرذمة العملية التفاوضية وفصل المفاوضات العسكرية والأمنية عن السياسية، وتغييب أي مطالب سياسية أو إنسانية مثل إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين، والموضوع بالطبع أكبر بكثير من تحويله لملف تبادُل أسرى، كما أنه بالتأكيد لو تمت عمليات التفاوض تلك ضمن إطار الهيئة العليا للمفاوضات وبشكل موحد لكان من الممكن التقليل من حجم الخسائر والحد منها وتحقيق بعض الإنجازات على صعيد البنود الإنسانية. فهل كان ذلك قراراً حكيماً؟
ألا ينبغي لمن يطالب الآن بالانسحاب من اللجنة الدستورية أو تجميدها أن يتعظ مما حدث سابقاً وإلى ماذا أدى؟ أليس علينا جميعاً أن نقرأ واقع المجتمع الدولي والإقليمي المفكك حالياً وتبدل أولويات الملفات والقضايا الدولية والإقليمية لدى الدول الرئيسة مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية؟ ألا تكفي كل تلك المؤشرات وتجربة الثورة التاريخية طوال الفترة الماضية لنقرأ منها أهمية التمسك والمحافظة على كل العناصر المفعلة في العملية السياسية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهي اتفاقية تشكيل اللجنة الدستورية وأعمالها لصياغة دستور جديد لسورية، مع مضاعفة الجهود والعمل على المساعدة في إنجاز توافُقات دولية وإقليمية تخدم مصالح شعبنا وتتقاطع مع مصالح حلفائنا وتوسيع دائرتهم، لتؤدي إلى إيجاد طرق لتنفيذ القرار 2254 بكامل بنوده بسُبل ناجعة وأكثر فاعلية.
أليست المنصة الأممية في جنيف هي التي تمنع النظام من الاستحواذ على فردية تمثيل سورية، وتمنح قوى الثورة والمعارضة منصة لتثبيت تطلعات شعبنا ومطالبه، وإرسال رسالة واضحة بأنه لا حل قابل للاستدامة دون تطبيق قرار مجلس الأمن 2254؟ ألا تمثل تلك الاجتماعات فرصة لتتفاوض خلالها هيئة التفاوض السورية مع الوفود الدولية والإقليمية التي تتواجد في جنيف خلال انعقاد أعمال اللجنة الدستورية، ألا تشكل نقطة ضغط على الدول الراعية للنظام للإيفاء بالتزاماتها التي تعهدت بها لباقي الدول الرئيسة لتنفيذ القرار 2254؟
إن الدعوة للتخلي عما نملك من مفاتيح تؤدي إلى الحل -مهما صغرت قيمتها الحالية أو كبرت- هي دعوة للانتحار، لن يرحمنا التاريخ ولا أحفادنا إن فعلناها.. ومَن ينتقد عليه أن يقدم خيارات عملية قابلة للتطبيق حلولاً بل مشروعاً منطقياً وخريطةً واضحةً، وليس دغدغة مشاعر بمطالب لا نملك أدوات إنفاذها حالياً، كما لا تتوفر الظروف الدولية اللازمة للتوافق على إنفاذها، إن المطالبة باتخاذ قرارات تؤدي بنتيجتها إلى خسارة ما تبقى من سُبل وأدوات لاستمرار الثورة بقيمها الحقيقية التي ثار الشعب من أجل تحقيقها هي دعوة صفرية لا منطقية.
نحن مَدْعوُّون للتفكير معاً لوضع الحلول العملية التي نملك أدوات تنفيذها وتكون قابلة للتطبيق، وتَبني على ما بُني سابقاً لتدعمه.