لا يكاد يأتي ذكر الجهاد في القرآن منفرداً في اسمه "الجهاد" إلا أن يضاف له الوصف الملازم الذي يعطيه جوهر معناه وحقيقته، وهو أن يكون في "سبيل الله"، فتلازُم الجهاد بشكل مطَّرد مع سبيل الله تلازماً لا ينفكّ أبداً في الخطاب القرآني بَيِّنٌ، وهناك يأتي التأكيد على الغاية النبيلة للقتال، فلا نغترّ بصور ومظاهر دعوات الجهاد المثيرة والتي قد تخدعنا بشجاعة دُعاتها أو إخلاصهم حيث لم تكن الشجاعة والإخلاص يوماً دليلاً كافياً على صَوابيَّة الفعل أو نغترّ بدعايتها وشعاراتها البراقة، وتضحياتها التي تحاول أن تخترق وعينا وهي مخضبة بدماء التضحية التي تشفع لها، ولا بدَّ لكشف حقيقة هذه الدعوة من تفحص دقيق للسبيل والطريق الذي نجاهد فيه، وإننا ما لم نتفحص معالم هذا السبيل الذي نجاهد ونقاتل فيه قد نكون أداة وظيفية نقاتل في سبيل تحقيق أهداف عدونا وتحت رايته ونحن نظن أننا على خُطَى خالد وحمزة رضي الله عنهما.
فإنه من المعلوم والمقرَّر عند العلماء أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله -تعالى- إلا أن يكون خالصاً صائباً، خالصاً لوجه الله -تعالى- وصائباً أي مُوافِقاً لما عليه مراد الشريعة وأهل العلم، فإن كان خالصاً غير صائب لا يُقبل وكذلك إن كان صائباً غير خالص لا يقبل.
وإن كشف صواب الفعل من عدمه هي مهمة العلماء الربانيين، فكثيراً ما يأتي المخادعون بصورة جهاد ملفَّق ليشوشوا به ويخدعوا به الشباب فيقع الكثير بشَرَكهم، من حيث يظنون أنهم يفعلون ما يُرضي الله تعالى.
وهنا لا بد من تبيين حقيقة الجهاد الملفَّق الذي يُودي بكثير من الشباب الإسلامي في هذه الأودية المضلّة والمَحارق الماحقة.
ومنها على الخصوص تيارات السلفية الجهاديَّة كما تحب أن تنعت نفسها التي تنطلق في إستراتيجيتها من ثنائية حَركية تقوم على بُعدين:
* على بُعد نظري عَقَديّ هو العقيدة السلفية (بزعمهم)، والتي على أساسها تُرسم جغرافيا التكفير ويحدد بنك الأعداء الذين ستتوجه لهم بالحراب والقتال والاستهداف.
* وعلى بُعد تطبيقي هو الجهاد المنبثق في أحكامه ودوافعه وأهدافه من هذه العقيدة.
وإن الانحراف الواقع في ممارسة الحركات الجهادية كما هو حال "داعش" هو فرع وانعكاس طبيعي وتلقائي للانحراف التصوري العَقَدي والخلل في التنظير.
* فتنطلق هذه الجماعات الجهادية مثلاً من فلسفة أن قتال المرتدين أَوْلَى من قتال الكفار الأصليين بناءً على أن أبا بكر رضي الله عنه بدأ بقتال المرتدين قبل أن يوجِّه الجيوش للكفار، وبذلك تتحول بوصلة الحرب نحو قتال المسلمين باعتبار كفر الحكومات والجيوش والشرطة والموظفين المدنيين باعتبارهم أعوان الظلمة حتى مَن خاط لهم ثوباً أو بَرَى لهم قلماً وتكفير الجماعات الإسلامية التي ترضى بالديمقراطية مسلكاً للتغيير باعتبارها ترتكب ناقضاً من نَواقِض الإسلام، وبذلك تُسدد البندقية إلى صدر المسلمين بدلاً من أن تتوجه البندقية إلى نُحور الغزاة والطغاة الصائلين .
ثم تقوم هذه الجماعات بعملية "تَنْخِيب الجهاد" وَفْق معايير هي أَضْيقُ من سَمّ الخِياط، ولا بد من إعادة البناء الأيديولجي لكل مَن يرغب في الجهاد فيخضع للمعسكرات التدريبية ليدرس فيها كتب الغلوّ والتكفير من كتب المقدسي ومحمود عمر السيف، بناءً على أن الجهاد يجب أن يكون خالصاً من شوائب البدع والضلالة، وبما أن كل المدارس الإسلامية -ما عدا السلفية الجهادية- هي في دائرة إما البدعة أو الضلالة أو الكفر فلا بد من الإعداد العقائدي القائم على المنهج الصافي والتَّنْخِيب، وبذلك تكوَّنت عندهم عقدة الصفاء المنهجي، وما هي في الحقيقة إلا الاستعلاء على المسلمين بمنهج التكفير والغلوّ واحتكار الإيمان والفهم عن الله تعالى.
*كما تنطلق الجماعات الجهادية في تلفيقاتها، من تعليل القتال بعلة الكفر أي قتال كل كافر حتى يُسلم أو يعطي الجزية وهو صاغر وليس بعلة الظلم والحرابة، فيجعلون من مجرد الفكر سبباً كافياً لبدء القتال حتى بدون تقديم الدعوة؛ باعتبار أن دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشتهرة، ولا عُذْر لمن لم يؤمن بها، فلا يبقى أمامهم إلا القتال، وتعليل القتال بالكفر وإن كان هو اختياراً لبعض الفقهاء، لكن ما يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من الفقهاء هو أن علة الجهاد هي الحِرَابة، لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) ، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) "البقرة 190".
فالمخالفة في الدين ليست سبباً لبَدْء القتال، إذ كيف تكون علةً للقتال وقد قبل المسلمون التعايش مع مَن يخالفوهم في المعتقد واعتبروهم من أهل الذمة.
* أما الانحراف من حيث الإستراتيجية فإن الحركات الجهاديَّة السلفية تتبنَّى إستراتيجية الجهاد العالمي القائمة على الضرب في كل مكان بناءً على فَهْم خاطئ لقوله تعالى: (قَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ويضيفون لها إستراتيجية قتال العصابة، مع أن سيرةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يثبت فيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتل عدوَّيْنِ معاً على جبهتين، ولا تثبت أنه جعل من قتال العصابة إستراتيجية دائمة له، إلا في حالة محدودة كما فعل أبو بصير وأبو جندل وهي حالة خاصة محدودة وليست من فعل النبي أصلاً .
* كما تشترط هذه الجماعات إسلامية الراية (أي الغاية الدينية من القتال) حتى يصح الجهاد. مع أن إجماع المسلمين على أن جهاد دفع الصِّيال لا يُشترط له الراية، ولا يشترط له إذن الأمير ولا البَيْعة، بل إن الفقهاء أجازوا في جهاد الدفع الجهاد مع كل برّ وفاجر، وأجازوا الجهاد تحت راية غير المسلمين، في حال كان العدو إذا انتصر هتك أعراض المسلمين واستباح بيضتهم ومرد هذا الانحراف في هذه النقطة بالتحديد هو أنهم يُنزِلون أحكام جهاد الطلب على أحكام جهاد الدفع ويعطونه نفس الشروط والأهداف بطريقة ملفَّقة.
* ومن انحرافاتهم أنهم يجعلون للجهاد هدفاً واحداً لا ثالث له وأي غاية غيره يعتبر الجهاد معها باطلاً، وهو تحكيم الشريعة وقيام سلطان الله في الأرض بناءً على فَهْم خاطئ لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) "الأنفال 39".
فيجعلون المعنى أن يخضع الناس للدين بالسيف، وهم يؤكدون بذلك دعاوى المستشرقين الذين يقولون: إن الإسلام انتشر بالسيف، ويجعلون معنى الفتنة هنا الكفر، مع أن معنى نفي الفتنة هنا هو نفي الإكراه على الكفر أو غيره ليغير دينه بالإكراه أو يمنع من اعتناق دينٍ آمَنَ به، وإلا كيف يتعايش الإسلام مع غير المسلمين في بلد واحد؟ وهنا يكون المعنى الصحيح لقوله تعالى: (حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي أن يكون اختيار الناس للدين هو اختياراً لله بحرية ورضًا دون إكراه.
والحقيقة أن للجهاد غاياتٍ وأهدافاً كثيرةً ومنها كفّ يد المعتدين وردّ صِيال الصائل ونصرة المظلوم.
والآيات في ذلك كثيرة:
قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) "البقرة 193".
وقوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) "الحج 39".
لا شك أن أُسَّ انحراف الحركية الجهادية عند هذه الجماعات راجِع إلى أُسُسها النظرية وفساد التصور العقدي، والذي تنبثق معه ومنه كل هذه الانحرافات والضلالات السلوكية التطبيقية، فكيف إذا أُضيف له انحراف التطبيق والممارسة أيضاً، إننا أمام نظرية جهادية تلفيقية خطيرة تقتطع النصوص والأحكام وترقع النظريات بطريقة مقلوبة وفهم منكوس، بحيث يتحوَّل فِقْه الجهاد إلى عِلْم الجريمة المنظَّم، ومَن يطالع كتاب مسائل في الجهاد لأبي عبد الله المهاجر، لا يظن إلا أنه يقرأ كتاباً لكِبار المجرمين، يحاول أن يُعضِّد جرائمه بالنصوص والأحاديث والأحكام.