تتالت المواقف الدولية التي علقت على تطور الأحداث في تونس بعد قرار الرئيس قيس سعيد تعليق عمل مجلس النواب وإقالة رئيس الحكومة مع عدد من الوزراء. فقد أملت باريس "بعودة المؤسسات الى عملها الطبيعي"، فيما أبدت واشنطن قلقها جراء تطور الأحداث. أما الأمم المتحدة حثت جميع الأطراف "على ضبط النفس والامتناع عن العنف وضمان بقاء الوضع هادئا". ردود الفعل الدولية هذه تؤكد أننا امام حالة انقلاب واضحة، خاصة إذا نظرنا أيضا إلى مواقف بعض الدول العربية. حتى اللحظة الدولة الوحيدة التي عارضت هذا الانقلاب هي دولة قطر. بمعزل عن موقف هذه الدول التي هي في الواقع ليست دولا، بل اشبه بمزارع لعائلات مالكة ولزمر من المافيات العابرة للوطنية. التي تستند في حكمها على قوى القمع العاري والمبطن إضافة إلى شرعية الغرب. حيث تم التهليل للانقلاب السعيدي في مصر السيسي. هذه النخب الحاكمة تبني جيوشا لمواجهة شعوبها فقط.
في تعريف الانقلاب أي انقلاب لا نستند على ما سيأتي بعده، ولا على ما كان سائدا قبله. الانقلاب هو استخدام طرق لا دستورية سواء بواجهة عسكرية او مدنية للاستيلاء على قرار الدولة من جهة، والاعتماد على القوة وأجهزتها للتحكم بمؤسسات الدولة من جهة أخرى، لتغيير ما كان موجودا قبل لحظة الانقلاب، سواء كان هذا الموجود جيدا ام سيئا. الانقلاب هو لحظة نوعية فارقة في مسيرة دولة. بعد هذه المقدمة يمكننا الحديث عما كان سائدا او عما يمكن ان يسود. نقرع هذه الجهة أو تلك، نتحدث عما نريده من الانقلاب لمستقبل الدولة.
شعارات تدبج: الإسلاميون منتهى السوء. العلمانيون منتهى السوء. يسار ويمين وبرامج ومواقف تصدر هنا وهناك من تيارات وأحزاب، وتجمعات مدنية، ونقابية، ودول. دول تدعم الانقلاب، ودول ترفضه، ودول بين بين. هذا بحد ذاته اعتراف بأن ما جرى هو انقلاب.
أمريكا تحذر وفرنسا تدعو لاحترام الديمقراطية، وتكر السبحة لمواقف كثيرة. ببساطة لأنه انقلاب.
ما اود التأكيد عليه هنا ان كل قوى المجتمع التونسي تقريبا تعاملت مع الانقلاب بمسؤولية عالية نسبيا. في محاولة لتلافي أي صدام في الشارع التونسي المنقسم. من جهة أخرى ماذا سيحمل الانقلاب لمستقبل تونس هو حديث آخر تماما. طرح السيناريوهات المستقبلية جزء من الفضاء الذي خلقه الانقلاب. من الواضح حتى اللحظة، أن الانقلاب جرى ليس لاستبعاد حركة النهضة، وإن كان هذا هو الشعار المبطن للانقلاب في "الشارع العلماني". بل لاستبعاد النظام الديمقراطي برمته. نحو شكل مخصص من الديمقراطية!! النخب التي تلقفت الخبر التونسي لتصفية حساباتها مع التيار الإسلامي، داعمة الانقلاب لا تختلف عن النخب الإسلامية التي قالت أرأيتم ماذا يفعل العلمانيون؟ إنهم انقلابيون وغير ديمقراطيين.
بدأ كل طرف يدبج تنظيراته الخلبية. دون محاولة تفسير واحدة محترمة على حد ما قرأت. لا يمكن لانقلابي في هذا الزمن ان يقوم بفعلته دون التواصل قبل الانقلاب مع دول فاعلة. هذه بداهة أمريكية خصوصا وسياسية عموما. هذا التواصل يتضح بعد الانقلاب. أي انقلاب لا يجري بين ليلة وضحاها. بل يحتاج لترتيبات تخص أجهزة القوة لكي يتم استخدامها في ضبط البلد من جهة، وشرعية الخارج من جهة أخرى. اعتقد ان هذه الأمور تغيب عن لوحة قراء الحدث التونسي. هذه الأمور لا تندرج في سياق نظرية المؤامرة، بل تندرج في سياق الحقل السياسي السائد، وقواه، ومصالحه، وممارساته. لا يمكن أن يحدث انقلاب في هذا الزمن دون هاتين المقدمتين: أجهزة القوة وترتيبها للانقلاب، وترتيباتها لما بعد الانقلاب في حال نجاحه، ودعم خارجي ليضفي الشرعية على الانقلابيين. كم عدد السفراء الذين التقاهم الرئيس التونسي قبل الانقلاب؟ كم عدد الاجتماعات التي عقدها مع مسؤولي الجيش* والامن والمخابرات في تونس لترتيب اللحظة الانقلابية وما بعدها؟ هذه كلها تمت في الخفاء للأعداد لهذه اللحظة. دون موافقة الجيش وأجهزة القوة ورشوتها ماديا ام أيديولوجيا لا يمكن ان يتم الانقلاب. ما كان لقيس سعيد أن يقوم بخطوته هذه دون مشاورات مع دول فاعلة قبل الانقلاب، وترتيبات الحصول على شرعية الخطوة.
ألا يقتضي هذا إعادة قراءة الحدث الانقلابي من جديد، الذي لا يمكننا التعويل فيه إلا على ثقتنا بالشعب التونسي وقواه الحية.
أما لجهة الفاعل الدولي فهو حتى اللحظة لا يناسبه أي نظام ديمقراطي حقيقي في الشرق الأوسط. هذا أيضا ما نحتاج لإعادة قراءته من جديد.
* شكر الرئيس التونسي قيس سعيّد القوات المسلحة قائلاً إنها “تصنع تاريخاً جديداً لتونس”، ودعا أفرادها لعدم التراجع. وقال سعيد متحدثاً لاثنتين من عناصر القوات المسلحة وقفتا بالزي الرسمي تؤديان أمامه التحية العسكرية: “لا تتراجعوا أبداً للوراء حتى تستعيد تونس مكانتها بين الأمم ولا تكون لقمة سائغة أو دمية يحركها البعض”، متعهداً بتخليص تونس ممن قال إنهم “الأردان التي علقت بها”.