لا يحتاجُ المرءُ كثيرَ عناءٍ للتدليل على دور حزب الله الوظيفي في لبنان وفي المنطقة عموماً، فالأمور بغاياتها والطرائق تدّل على الأهداف والنتائج تشير إلى النوايا. إضافة إلى تأكيد أمينه العامّ حسن نصر الله بأنّه جنديّ من جنود ولاية الفقيه، وأنّه يحصل على تمويله وسلاحه من إيران، وأنّه يسعى لتحقيق الدولة الإسلامية على النموذج الإيراني في لبنان، فإنّ ما قام به حزب الله منذ نشأته يدلّ بشكل قاطع على أنّه أُنشئ ليكون وسيلة لتحقيق مصالح النظام الإيراني حصراً.
لقد أدّت الحرب الأهليّة اللبنانية من جهة، والاحتلال الإسرائيلي والسوري من جهة ثانية إلى خلق معادلة جديدة للتمثيل السياسي بين المكونات اللبنانية التقليدية، وكانت أبرز نتائج هذه العوامل الثلاثة كسر المارونية السياسية واحتكارها السلطة في لبنان، وظهور تمثيل سياسي وثقافي للشيعية، بدأ مع حركة المحرومين وانتهى بقوّتين عسكريتين متنافستين هما حركة أمل وحزب الله. من أهمّ نتائج الحرب والاحتلالين الإسرائيلي والسوري أيضاً كان إنهاءَ الوجود الفلسطيني المقاوم في لبنان، فقد تمّ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، كما تمّت محاصرة الفلسطينيين ضِمن مخيمات معزولة وممنوعة عن الحركة والعمل.
باستثناء حزب الله، قام النظام السوري تدريجياً بإقصاء جميع القوى العسكرية من الساحة اللبنانية، وقد لعب اتفاق الطائف الذي نصّ على سحب سلاح الميليشيات دور المرجعية التوافقية لهذا الأمر. كان حافظ الأسد يستعمل عصاه الغليظة ليوازن أدوار اللاعبين الإقليميين هناك، وكان هو الضامن عملياً للدور الإيراني في دعم الحزب والتحكم بمصير الطائفة الشيعية واستتباعها لسياسة حكام طهران لا العكس. لكنّ الآية انقلبت مع وفاة حافظ وقدوم ابنه بشار، فهذا الأخير لم يستطع التحكم بخيوط اللعبة كما فعل والده من قبل.
كان لشخصيّة رفيق الحريري ذات الكاريزما الطاغية والحضور الواضح، وكان لمشروعه إعادة بناء تمثيل حقيقي للسنّة اللبنانيين وربّما العرب، الدور الأبرز في اتّخاذ قرار اغتياله. فبشار الأسد المهزوز نفسياً، والذي وجد نفسه يرتدي عباءة أكبر منه بكثير، وكان في ذات الوقت معجباً بشخصية حسن نصر الله –فحاول أن يقلّده في أسلوب الخطاب المتعالي دون أن ينجح طبعاً– قرر أنّ بقاء الحريري سيكون عائقاً حقيقيّاً أمامه، فكان لا بدّ من التخلص من الكبار حتى يطمئنّ هذا الصغيرُ لعدم وجود مثال صارخ يذكّره على الدوام بقامته القزمة المحتقرة. وقد لعب حزب الله دور المنفّذ لهذا الجرم لما له من فائدة كبيرة تتقاطع مع مصالحه الذاتية ومصالح مشغّليه في طهران.
منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 وحتى حرب تموز عام 2006 وصولاً إلى لحظة اغتيال لقمان سليم، قام حزب الله بتصفية كبار الشخصيات السياسية والوطنية اللبنانية. فبعد الفوضى العارمة التي سبَّبها اغتيال الشهيد رفيق الحريري وباسل فليحان وغيرهم من الضحايا، بدأت عمليات اغتيال ممنهجة طالت كلّ مَن وقف بوجه النظام الأمني السوري اللبناني، وكلّ مَن دعم قرار إخراج الجيش السوري من لبنان. تطول القائمة كثيراً، من إيلي حبيقة في عام 2002 قبل الاغتيال الكبير، إلى سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيّار أمين الجميّل ووليد عيدو وأنطوان غانم وفرانسوا الحاج ووسام عيد وصالح العريضي ووسام الحسن ومحمد شطح، ولن تتوقف مسيرة الاغتيال ما دام الحزب موجوداً.
انتهت حرب تموز عام 2006 بانتصار إلهي لحزب الله، وجاءت قوات اليونيفيل لتتمركز على حدود هذا النصر الإلهي، وتمّ التوصل إلى اتفاق يضمن حماية دائمة ونهاية لإسرائيل من جهة لبنان، مع الإبقاء على مزارع شبعا صندوق بريد مفتوح لتبادل الرسائل السياسية بوسائل عسكرية بين الفَيْنة والأخرى، حسب مصالح المرسلين وظروف المنطقة.
جاءت ثورات الربيع العربي وخاصّة الثورة السورية لترفع من قيمة حزب الله ودوره لدى مشغّليه بشكل هائل، فلم يعد بالإمكان الاكتفاء بالساحة اللبنانية، بل وجب الآن تخطِّي الحدود والمشاركة الفاعلة في إعادة رسم المنطقة بأكملها. لقد أثبتت الأيام أنّ حزب الله رأس حربة الحرس الثوري الإيراني في الدول العربية الداخلة في فَلَك الهيمنة الإيرانية، فالدور الهائل الذي لعبه في سورية، يعادله أدوارٌ لا تقلّ أهمية من حيث التخطيط والتدريب في اليمن، والعراق، والبحرين والكويت. ولا يقلّل من هذا الدور في سورية تدخّل روسيا لإنقاذ النظام وإيران وحزب الله من هزيمة كانت شبه مؤكّدة ومحققة، في مثل هذه الأيام من شهر أيلول/ سبتمبر عام 2015، بل إنّ هذا التدخّل أثبت ضرورة وجود شركاء مؤهلين، ومدرّبين وموثوقين على الأرض لتثبيت نتائج التفوّق الجوي الروسي الساحق.
والآن، وقد بات من الواضح بمكان ما لحزب الله من وظيفة بنيوية في المنطقة، كيف لنا أن نقرأ مستقبله ضِمن الخارطة السورية، وهل سيكون له أن يلعب نفس الدور، وهل ستكون الفرصة متاحة أمامه للمساهمة الفعّالة بإعادة صياغة المنطقة وَفْق المصالح الإيرانية، أم أنّ العباءة هذه المرّة كبيرة عليه؟ هذا ما سنتحدّث عنه في مقال لاحق إن شاء الله.