تمضي قوات النظام السوري وروسيا بارتكاب المجازر في محافظة إدلب، وقتل المزيد من المدنيين، ضاربة عرض الحائط بالاتفاقيات والتفاهمات المبرمة مع تركيا حول المنطقة، ودون أن تلقي بالاً للدعوات الدولية والأممية التي تخرج بين الحين والآخر للمطالبة بوقف التصعيد في شمال غربي سوريا.
واستيقظ أهالي منطقة جبل الزاوية صباح اليوم الخميس، على مجزرة جديدة ارتكبتها قوات النظام في بلدة "إبلين" راح ضحيتها 7 مدنيين من عائلة واحدة، أكثر من نصفهم من الأطفال، إضافة إلى سقوط 7 جرحى آخرين.
مجزرة اليوم تضاف إلى سلسلة المجازر التي بدأتها قوات النظام وروسيا في منطقة جبل الزاوية منذ مطلع شهر حزيران/ يونيو الماضي، وأدت حتى لحظة كتابة هذه السطور إلى سقوط أكثر من 88 ضحية مدنية، من بينهم 27 طفلاً وطفلة، و17 سيدة، واثنان من متطوعي "الخوذ البيضاء"، وذلك وفقاً لما أفاد به عضو المكتب الإعلامي لمديرية الدفاع المدني في إدلب "فراس الخليفة".
وأوضح "الخليفة" في حديثه لموقع "نداء بوست" أن "الخوذ البيضاء" وثقت منذ بداية شهر حزيران/ يونيو الماضي وحتى يوم أمس الأربعاء 21 تموز/ يوليو، 287 هجوماً جوياً ومدفعياً، تركزت على قرى وبلدات منطقتي جبل الزاوية جنوب إدلب، وسهل الغاب غرب حماة.
أسباب التصعيد
منذ تدويل القضية السورية، وبشكل خاص بعد التدخل العسكري الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015، اتخذت موسكو من الملف السوري أداة للضغط على خصومها، وبشكل خاص تركيا وبدرجة أقل الولايات المتحدة.
وليس بعيداً عن ذلك، ربط روسيا الملف الليبي بملف إدلب، حيث قابل كل تقدم حققته قوات حكومة "الوفاق" المدعومة من تركيا، تصعيداً روسياً في شمال غربي سوريا، وهو ما اندرج أيضاً على المعارك التي شهدها إقليم "قره باغ" في أذربيجان، حيث كانت موسكو وأنقرة على طرفي النزاع.
ومن غير المستبعد، أن تكون روسيا ترغب في أن يصل صدى قصف جبل الزاوية إلى أكثر من ألفي كيلو متر، وتحديداً إلى أفغانستان، الشغل الشاغل للعالم في الوقت الحالي، حيث تجري الولايات المتحدة وتركيا محادثات بهدف ملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب قوات حلف "الناتو" من هناك، وفيما يبدو أن أفغانستان ستكون مسرحاً جديداً للتنافس والتصادم بين موسكو وأنقرة.
وبالنسبة للتصعيد الحالي في إدلب، فيرى الباحث في مركز "الحوار السوري"، "أحمد قربي" أنه يعود إلى أسباب عدة، منها ما يتعلق في عدم الاتفاق بين الأطراف الفاعلة في هذا الملف (روسيا وتركيا)، والمطالب الروسية المتجددة والمتعلقة بتنفيذ بنود اتفاق موسكو من فتح الطرقات أمام الحركة التجارية وإقامة منطقة منزوعة السلاح.
وأشار "قربي" في حديثه لموقع "نداء بوست" إلى أن روسيا تسعى من خلال التصعيد في إدلب إلى الضغط على تركيا لتحصيل مكاسب فيما يتعلق بفتح الطرقات (طريق حلب – اللاذقية M4)، والسماح بتبادل المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس وليس عبر الحدود.
ويحمل التصعيد الروسي في إدلب رسائل عديدة وفي اتجاهات مختلفة، ويهدف بدرجة كبيرة إلى الضغط على تركيا بـ"خاصرتها الرخوة"، والتشويش على أي تقارب قد يحدث مع الولايات المتحدة، وتذكيرها بأن مفاتيح الملف السوري بيد موسكو، وذلك وفقاً لما يرى الكاتب والباحث في الشأن التركي "محمود عثمان".
واعتبر "عثمان" في حديثه لموقع "نداء بوست" أن من بين الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من خلال هذا القصف، حرمان منطقة شمال غربي سوريا من الاستقرار وما يليه من عمليات نمو اقتصادي وتجاري، في حين ترزح مناطق سيطرة النظام تحت جحيم الأزمة الاقتصادية.
ويعتقد محدثنا أن روسيا تسعى إلى توسيع الفجوة وزرع حالة عدم ثقة بين المدنيين في شمال غربي سوريا وبين تركيا، ووضع أنقرة في موقع محرج أمام سكان إدلب في حال عدم الرد على خروقات النظام، أو الرد ومن ثم الدخول في مواجهة عسكرية جديدة قد تتطور إلى عمليات واسعة تنهي التفاهمات الخاصة بالمنطقة.
غضب شعبي من الموقف التركي
استمرار القصف ونزيف الدماء في المنطقة، وما تبعه من موجات نزوح جديدة نحو المناطق الحدودية، خلق حالة من الاحتقان والغضب الشعبي تجاه الموقف التركي من هذه الهجمات، وعدم اتخاذ خطوات ملموسة وحازمة للرد عليها، خاصة وأن أنقرة تعتبر طرفاً في جميع الاتفاقيات المبرمة حول إدلب، وضامناً رئيسياً لها.
وأصدرت فعاليات شعبية وعدد من وجهاء منطقة جبل الزاوية بياناً قبل أيام، طالبوا فيه القوات التركية المتواجدة في المنطقة بحماية المدنيين والرد على قصف قوات النظام، ودعوا أنقرة إلى تحمل مسؤولياتها تجاه سكان أكثر من 35 بلدة وقرية تتعرض للقصف اليومي وبشتى أنواع الأسلحة.
وحذر البيان الحكومة التركية من أن عدم تحملها للمسؤولية التي تكفلت بها، وبحماية المدنيين في إدلب والتزام الصمت تجاه المجازر المرتكبة ضدهم، يعتبر "اشتراكاً في هذه الجرائم".
وعقب مجزرة "إبلين" قام عدد من أبناء قرى وبلدات جبل الزاوية بقطع عدة طرقات مؤدية إلى النقاط التركية في المنطقة بالإطارات المشتعلة، كما نفذ قسم آخر اعتصاماً أمام النقطة التركية في بلدة "البارة"، ودعوا المدنيين إلى الخروج بمظاهرات يوم غد الجمعة، لمطالبة الجيش التركي المنتشر في عشرات المواقع هناك بتحمل مسؤولياته.
وأكد عضو الهيئة السياسية في محافظة إدلب "محمد سلامة" أن حالة استياء كبيرة تسود بين سكان المنطقة تجاه الموقف التركي من خروقات النظام وروسيا، وقال في حديثه لموقع "نداء بوست" إن الأهالي باتوا ينظرون إلى تركيا نظرة سلبية، كونها تعتبر ضامناً وحليفاً في ذات الوقت، والمنتظر منها أن تضع حداً لهذه التجاوزات.
وأشار "سلامة" إلى أن القانون الدولي ينص على أن الدولة المسيطرة عسكرياً على بقعة جغرافية معينة، يتوجب عليها حماية المدنيين فيها، مضيفاً أن الحكومة التركية مطالبة اليوم باستعمال كافة الوسائل للضغط على روسيا ووضع حد لهذه الخروقات.
ورأى أنه في حال عجز تركيا عن وضع حد للانتهاكات الروسية في جبل الزاوية بالوسائل السياسية، فإن اللجوء إلى الخيار العسكري يعتبر أمراً ضرورياً لذلك، كدعم الفصائل العسكرية للرد بشكل أكبر وأقوى على الخروقات.
وبحسب الناشط "حليم العربي" فإنه بالإضافة إلى حالة الغضب من الموقف التركي، فإن المدنيين في إدلب باتوا مشككين بدوره، وهل هو ضامن لوقف إطلاق النار أم جهة حيادية، مشيراً إلى أن الشارع ينتظر الكثير من تركيا رغم "قلة الخيارات التي تمتلكها وهامش المناورة الضيق".
واستدرك "العربي" في حديثه لموقع "نداء بوست" بالقول إن تركيا غير قادرة على الانطلاق بمعركة منفردة ضد قوات النظام وروسيا دون الحصول على دعم دولي وتحالف قوي وموثوق، خاصة وأنها تدعم في إدلب من هم بنظر المجتمع الدولي معارضة مسلحة أو متمردون على النظام، بعكس تدخلها في ليبيا وأذربيجان.
وبات قسم من المدنيين في إدلب يحمّلون تركيا مسؤولية الخروقات والمجازر اليومية التي تشهدها المنطقة، بسبب وجودها العسكري الكبير وتمركز قواتها في عشرات النقاط والقواعد، ولعبها دور الضامن في جميع الاتفاق المتعلقة بالمحافظة، بدءاً من "أستانا" و"سوتشي" وحتى بروتوكول 5 آذار/ مارس 2020، وذلك وفقاً لما أفاد به الناشط السياسي "عبد الكريم العمر" في حديثه لموقع "نداء بوست".
وينطلق انتقاد موقف تركيا في إدلب -بحسب "العمر"- من عجزها عن وقف المجازر التي يرتكبها النظام وروسيا على حدودها الجنوبية، بينما تمكنت من قلب المعادلة لصالح حلفائها في روسيا وليبيا، مؤكداً أن اللجوء إلى الخيار العسكري قد يكون حلاً لهذه الانتهاكات اليومية في حال تلقت الفصائل دعماً يمكنها من لجم قوات النظام.
لماذا نجحت تركيا في ليبيا وأذربيجان وعجزت في إدلب؟
تمكنت تركيا من تدخلها العسكري إلى جانب حكومة "الوفاق" في ليبيا، من وقف تقدم قوات اللواء "خليفة حفتر" المدعوم روسياً نحو العاصمة "طرابلس"، ودعم قوات الأولى لاستعادة مناطق ومواقع استراتيجية من عناصر "حفتر".
وانطبق الأمر ذاته، على التدخل العسكري التركي في إقليم "قره باغ"، حيث قدمت الدعم لحكومة أذربيجان ضد أرمينيا، الأمر الذي أدى إلى حسم المعركة بعد 6 أسابيع فقط من انطلاقتها، وحل مشكلة النفوذ في الإقليم بعد سنوات من الصراع عليه.
وحول أسباب عدم نجاح تركيا في تحقيق ذات النتائج التي حققتها في ليبيا وأذربيجان، في محافظة إدلب رغم قرب الأخيرة منها، قال الباحث "أحمد قربي" إن ظروف الملف السوري تختلف عن باقي الملفات، كتقاطع وتناقض المصالح الدولية، والحضور الروسي القوي في سوريا الذي لم يكن ذاته موجوداً في ليبيا وأذربيجان.
وأشار "قربي" في حديثه لموقع "نداء بوست" إلى أن تركيا تفتقد في سوريا أحد أهم الأوراق التي كانت تمتلكها في ليبيا وأذربيجان، وهي الدعوة من الحكومة الشرعية التي وفرت لها تدخلاً قانونياً، على عكس الملف السوري حيث عملت أنقرة في فترة من الفترات على التمسك باتفاقية "آضنة" للتدخل.
يضاف إلى ذلك الحضور الروسي القوي في سوريا، وعدم تقاطع مصالح موسكو وأنقرة في أذربيجان أو ليبيا بشكل كامل كما هو الحال في سوريا، فضلاً عن حجم المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققها كل طرف من تدخله.
ويتوافق الكاتب "محمود عثمان" مع ما ذكره "قربي"، حيث أشار إلى أن الجيش الروسي متواجد في سوريا على الأرض ولديه قواعد عسكرية هناك، كما أن أهمية سوريا ووزنها الاستراتيجي بالنسبة لموسكو يختلف عن أهمية ليبيا أو أذربيجان، مضيفاً أن روسيا على استعداد للدخول في مواجهات ضد تركيا في سوريا في حال تعرضت مصالحها للخطر، بينما تركيا غير قادرة ولا ترغب في ذلك.