المصدر: ذا ناشيونال إنتريست
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: ديفيد ليبيسكا
عندما اجتمع قادة الناتو في مدريد الأسبوع الماضي، شرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مهمة دبلوماسية حاسمة خاصة به. ولم تكن رحلته الأولى إلى الخارج منذ غزو بلاده لأوكرانيا في أواخر شباط /فبراير إلى أي من القوتين الإقليميتين، الهند والصين، اللتين زادت وارداتهما من الغاز ما وفّر لموسكو شريان الحياة الاقتصادي.
وبدلاً من ذلك، سعى بوتين إلى إعادة تأكيد النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، وزار طاجيكستان، حيث استقبله زعيمها بالترحاب، ثم تركمانستان لحضور قمة لقادة بحر قزوين، بمن فيهم قادة من أذربيجان وكازاخستان وإيران.
وأكّد يوري أوشاكوف، مستشار السياسة الخارجية لبوتين، أن “جوّ الصداقة والتعاون يسود بحر قزوين”. ومع ذلك، كان يُنظر إلى النفوذ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى على نطاق واسع على أنه يتراجع حتى قبل الصراع مع أوكرانيا. الآن، مع تعطيل العقوبات الغربية الكبيرة لطرق التجارة، قد تكون العلاقات الروسية عبر أوراسيا -ومع الصين الضاربة في المنطقة -حاسمة لبقائها الاقتصادي.
هذا ليس خبراً سارّاً بالنسبة لتركيا، التي تعمل على توسيع تواجدها الإقليمي لسنوات. في عام 2009، أنشأت أنقرة منظمة الدول التركية (المجلس التركي سابقاً). واليوم، يبلغ عدد أعضاء الكتلة خمسة هم (أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركيا وأوزبكستان) ودولتان مراقبتان (تركمانستان والمجر) حوالي 170 مليون شخص ويبلغ إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول 1.5 تريليون دولار.
في آذار/مارس، قال نائب رئيس الوزراء التركي السابق بن علي يلدريم، رئيس مجلس حكماء الكتلة: إنه يأمل في إقامة تحالف شبيه بالاتحاد الأوروبي، يتمتع بحرية كاملة في حركة البضائع والأشخاص. وهذا يعكس رؤية منظمة التعاون الاقتصادي المكونة من 10 أعضاء، والتي تعتبر أقدم بكثير وتضم أيضاً إيران وأفغانستان وباكستان كأعضاء، بالإضافة إلى طاجيكستان.
لكن التأكيد على الهوية القومية التركية ومكانة تركيا باعتبارها العضو الأكثر اكتظاظًاً بالسكان يمنح أنقرة درجة من السيطرة على المجلس التركي، وهذا هو السبب في أن معظم المراقبين ينظرون إلى الكتلة كأداة لتوسيع النفوذ التركي، تُركّز على الطاقة والتجارة.
تمتلك تركيا القليل من احتياطيات الطاقة المحلية، وبالتالي يجب أن تعتمد على الواردات، حيث توفر روسيا ما يقرب من نصف غازها الطبيعي المستورد. ويمكن القول إن الهدف الرئيسي لأنقرة في دعم أذربيجان في حرب أواخر عام 2020 من أجل ناغورنو كاراباخ كان أملها في الحصول على وصول أكبر إلى الغاز الأذربيجاني وعبر قزوين، مما يحتمل أن يصبح دولة عبور للطاقة.
تهدف المنظمة التركية إلى تطوير موانئ أكبر وأفضل وممرات تجارية مباشرة أكثر. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك أول قطار بخط يصل بين كازاخستان – إيران – تركيا، الذي وصل إلى طهران مع حمولته من الكبريت في أواخر حزيران/ يونيو. وبشكل أكثر تحديداً، تهدف أنقرة إلى تطوير الممر الأوسط إلى الصين، القائم بين الطرق الجنوبية والشمالية عبر إيران وروسيا.
يتمثل أحد العناصر الحاسمة في هذه الرؤية في إحياء ممر زانجيزور، والذي، كما أوضحت في مقال سابق، هو عبارة عن خط ربط لمسار قطار يعبر الأراضي الأرمنية من شأنه أن يربط أهم أراضي أذربيجان بأراضي المنطقة التي تمّ عزلها عنها في ناختشيفان والمتاخمة لتركيا. وهذا من شأنه أن يمنح أنقرة بوابة إلى حوض بحر قزوين وأحد أسرع الطرق المؤدية إلى آسيا الوسطى والصين، مما يوفر إمكانات اقتصادية وطاقة هائلة وفرصة للاستثمار الكبير في مبادرة الحزام والطريق.
قبل ستة أسابيع، زار الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف أنقرة ووقّع 15 اتفاقية ثنائية كجزء من شراكة استراتيجية معززة. وأشار توكاييف إلى أنه منذ أن بدأت كازاخستان في استخدام ممرات الشحن التركية، فقد أصبح وقت نقل البضائع من خورجوس إلى إسطنبول 13 يوماً بدلاً من 60 يوماً.
ووافقت كازاخستان أيضاً على بدء الإنتاج المحلي لطائرات Anka التركية بدون طيار. بدَا هذا مناسباً، حيث يبدو التنظيم التركي أحياناً وكأنه واجهة للدفاع الداخلي التركي. لقد لعب الدعم العسكري التركي، بشكل رئيسي من خلال تقديم المستشارين وطائرات بيرقدار تي بي 2 بدون طيار، دوراً مهماً في انتصار أذربيجان في ناغورنو كاراباخ. في أواخر العام الماضي، أكدت قيرغيزستان أنها اشترت طائرات تركية بدون طيار أيضاً.
واشترت تركمانستان أيضاً طائرة بدون طيار (واحدة على الأقل) من طراز بيرقدار تي بي 2، وقامت بعرضها في أيلول/ سبتمبر الماضي. وتعد تركمانستان موطناً لرابع أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم، وهي أحدث إضافة للتحالف، حيث أصبحت مراقبًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. وقد تطلب قريباً وضع العضوية، على الرغم من ميلها لتجنّب التحالفات الإقليمية.
وكانت الصين زبونها الرئيسي في مجال الطاقة، لكن هذه العائدات تذهب بشكل أساسي إلى سداد الديون.
قد تنظر تركمانستان الآن إلى تركيا على أنها أفضل مُشترٍ بديل وأقرب طريق تجاري مباشر -عبر بحر قزوين إلى باكو، ومن زانجيزور إلى تركيا ثم إلى أوروبا. ففي شباط/ فبراير، اتفقت أنقرة مع أذربيجان وتركمانستان على نقل الغاز من حقل دوستلوك المشترك إلى أوروبا.
ربما تأمل الصين، ببناء طريقها التجاري السريع إلى الغرب، في منع روسيا وتركيا من اكتساب موطئ قدم أقوى. إحدى العقدة الرئيسية لهذا الجهد هي أوزبكستان، حيث برزت الصين كسوق التصدير الرائد في البلاد العام الماضي (1.74 مليار دولار مقارنة بـ 1.7 مليار دولار في روسيا). وتُعدّ الصين أيضاً أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي لأوزبكستان، بأكثر من ضعف حجم استثمارات روسيا في أوزبكستان.
زار أردوغان طشقند في آذار/مارس لإبرام الشراكة التركية الأوزبكية بعد أسابيع فقط من توقيع بكين وطشقند صفقاتهما الخاصة. وتضمنت التزامات تركيا إنشاء محطة طاقة حرارية بقيمة 150 مليون دولار ومحطة طاقة تعمل بالغاز بقيمة 140 مليون دولار، مما يجعل أنقرة ثالث أكبر سوق تصدير لأوزبكستان.
وقد أخبرني مؤخراً كامران بخاري، الرئيس السابق لقسم دراسات آسيا الوسطى في معهد الخدمات الخارجية الأمريكي: “إن سباق بين تركيا والصين في آسيا الوسطى، فيما يتعلق بمن يحصل على مزيد من النفوذ مع تراجع روسيا”.
بينما كان السيد بوتين يتصرف بلطف في آسيا الوسطى، وافقت السويد وفنلندا على معالجة مخاوف تركيا بشأن الإرهاب -على الرغم من أنهما لا يزالان بحاجة إلى المتابعة مسألة التوافق مع تركيا – حيث حفز الغزو الروسي لأوكرانيا التوسع السريع للناتو.
أكد المفهوم الاستراتيجي الجديد للكتلة، الذي صدر في مدريد، أن “طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تتحدى مصالحنا وأمننا وقيمنا” وحذّر من “تعميق الشراكة الاستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي”.
وقد أعرب مسؤولو الدول الأعضاء في الناتو منذ سنوات عن مخاوفهم من قيام الصين بنشر نفوذها الاقتصادي من خلال مبادرة الحزام والطريق، مع استثمارات كبيرة في آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان وتركيا ومنطقة البلقان. الآن، إحدى النتائج الأكثر إلحاحاً للحرب في أوكرانيا هي تحالف موسكو الوثيق مع بكين.
ربما تسعى أنقرة لتحقيق مصالحها الخاصة في آسيا الوسطى والقوقاز، لكن كما أوضحت العام الماضي، فإن هذه المصالح تتوافق إلى حد كبير مع حلفائها في الناتو. كلاهما يهدف إلى ضمان الاستقرار والوصول إلى موارد الطاقة مع كبح نفوذ بكين وموسكو.
قال بول غوبل، المتخصص منذ فترة طويلة في أوراسيا والمستشار السابق لوزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر، في مقابلة أجريت معه مؤخراً إنه من المرجح أن تستمر تركيا في الظهور في المنطقة مع تراجع روسيا. وقال: “إن روسيا مرعوبة من صعود تركيا”. “روسيا قلقة من أنها تمثل تهديداً للجزء الجنوبي من الاتحاد الروسي، وهو ما تفعله بالفعل”.
تدعم الولايات المتحدة بالفعل تطوير الممر الأوسط لتركيا كوسيلة لمساعدة أوروبا على الابتعاد عن الطاقة الروسية، وقد توفر تمويلاً كبيراً ودعماً دبلوماسياً لاستكمال أنقرة الطريق العابر لبحر قزوين. إذا سعى الناتو لمواجهة هذا المحور الروسي الصيني المتصاعد في أوراسيا، فلن يجد شريكاً أفضل من أنقرة.
كما هو الحال في أفغانستان مع طالبان، في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا وجهود إطلاق الحبوب، ومع أزمة اللاجئين السوريين، تجد تركيا مرة أخرى، على الرغم من اتخاذ مواقف معادية للغرب بانتظام، نفسها مستعدة تماماً لمساعدة حلفائها الغربيين.