فرنسا أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن؛ قوة نووية؛ وريثة إمبراطورية منافسة لتلك التي لم تكن تغيب عنها الشمس؛ في كل قارة لها وجود؛ وجُزُرُها منتشرة في كل المحيطات؛ ثورتها مضرب مثل، ألهمت وساهمت باستقلال أمريكا من الاستعمار البريطاني؛ مهندس فرنسي ذاك الذي صمَّم مخطط واشنطن عاصمة أمريكا؛ وتمثال الحرية قرب نيويورك هدية فرنسية؛ خاضت حربين عالميتين؛ حليفة أمريكا الأولى؛ كانت في فيتنام قبل أمريكا؛ وكانت في المنطقة العربية قبل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.
في سياستها الخارجية، والتي كادت تكون غائبة في انتخاباتها الرئاسية الأخيرة؛ ومنذ قرن تقريباً، يُؤخَذ عليها أن لا فرق بين يمينها ويسارها منذ “بيتان” مروراً بـ “دوغول” و”بومبيدو” و”ديستان” و”ميتران” حتى “ماكرون”، إلا في التعاطي الإعلامي. فالسياسة الخارجية، كما يرى باحثون، تمثل رؤية اليمين الأوروبي سواء حكم الديغوليون أو الاشتراكيون .. الفرق بينهم في السياسة الداخلية فقط.
للمؤسسة العميقة الفرنسية، الروس عدو ثقافي وحضاري، وليس بسبب الديمقراطية؛ وعقدة القياصرة حاضرة قبل عهد نابليون؛ والعقدة الأنكلوسكسونيك لم تكن بسبب كرة القدم أو سايكس بيكو، والضغط الإنكليزي لخروجهم من سورية؛ والعقدة البسماركية لم تكن الوحيدة تجاه ألمانيا؛ تساهلت مع هتلر يوماً، فاحتل باريس. ومن هنا، وفي هذه الانتخابات، إحدى النقاط التي تألق بها الفائز تتمثل بموقفه من بوتين في غزوه لأوكرانيا، ورميه منافسته في الحضن الروسي.
فيما يخصنا، الخميني كان فيها، ومنها خرج؛ وحزب الله لا يُصنَّف لديها إرهابياً يعرقل ويدمر الحياة اللبنانية، و(ولبنان ما هو بالنسبة لفرنسا)؛ ورفعت الأسد نال منها وسام استحقاق من قِبَل ميتران، وعاد إلى سورية بعد تجريمه في عهد ماكرون، وشيراك استقبل بشار الأسد قبل أن يُنَصّبَ رئيساً. إنه التاريخ الذي يحرك الحاضر لترسم آثارُه وعقابيلُه ملامحَ المستقبل.
في الانتخابات الفرنسية التي جرت مؤخراً، وباستثناء البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يكن هناك أي حضور للسياسة الخارجية. ولولا غزو بوتين لأوكرانيا وعلاقة “مارين لوبين” الخاصة مع روسيا، والتي استغلها “ماكرون” لحرق منافسته، ما كان التطرق لذلك الأمر. تلك الانتخابات كانت داخلية بامتياز. فاز فيها ماكرون في ولاية ثانية؛ وسيكون أكثر راحةً وثقةً. بإمكانه صناعة تاريخ مختلف على ضوء تطوُّرات عالمنا الجديد، وخاصة على الصعيد الخارجي. بوتين تحديداً، سيرى رئيساً مختلفاً عن ذاك الذي التقاه في موسكو آخِر مرة.
رغم العلاقة الخارجية الخاصة مع منطقتنا والتي نتشارك فيها بمياه المتوسط وإرث طويل من التدخلات الفرنسية منذ نابليون، لم يكن هناك ذكر في انتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة لأي أمر يتعلق بتلك المنطقة؛ ولكن إذا عُدْنا لفترة الرئاسة الأولى للفائز الرئيس ماكرون، نتذكّر عبارته الأشهر، عندما سُئِل عن موقفه تجاه الإجرام الأسدي في سورية، وقال: “الأسد عدو لشعبه، وليس عدواً للفرنسيين”. عندها، وفي التحليلات:
ذهب البعض إلى اعتبار ذلك نقطة سلبية فتناولوا الخلفية التي أتى “ماكرون” من خلالها إلى الرئاسة. تذكّروا الصمت على جريمة الكيماوي، وعلى نظام يقتل شعبه، وعلى دخول “حزب الله” لمحاربة ثورة أهل سورية، وعلى مَن دمّر نصف سورية وشرّد نصف شعبها. ومن يترك الحبل على الغارب لإيران في سورية، وعلى مَن لا يقلقه الاحتلال الروسي لسورية. آخرون رأوا في تصريحه ذاك موقفاً حاسماً يزيل عن الأسد أية شرعية، يقر بأن القضية السورية ليست مسألة محاربة إرهاب، وأن هناك سلطة مستبدة ترتكب الجرائم بحق الشعب السوري.
وهناك مَن اعتبر تصريحات ماكرون ضربة على الرأس تُوقظ من الركود والأنانية وسائر الأمراض التي أصابت انتفاضة أهل سورية. هؤلاء رأوا في ما قاله “ماكرون” تحفيزاً لفعل شيء تجاه سورية وأهلها؛ فقالوا: ليكن كلام “ماكرون” السيف الذي يكسر واقع الحال القائم: لنحوِّلْ جمودنا إلى انطلاق/ وأنانيتنا إلى إيثار/ وتبعثرنا إلى وحدة القلب والكلمة/ وترهُّلنا إلى اشتداد وهمّة/ لنجد المشروع الذي يولّد قائداً وقيادة راشدة تليق بأهل سورية وترتقي إلى نبل القضية السورية، لنوجد بِنْية ثقافية تربوية إعلامية فاعلة أمينة، لنوجد أجهزة قضائية وقانونية وإدارية ودبلوماسية حسب الأصول المهنية، لنوجد بِنْيَة مجتمعية هاجسها الوطن فقط.
في الوقت ذاته، علينا أن نتيقن من أن هذا العالم أضحى رغم تبايناته، ورغم الخصوصيات، ورغم أنه ما من دولة جمعية خيرية، ورغم تاريخية علاقات فرنسا مع منطقتنا بمرّها وحلوها؛ علينا أن ننتظر ونعتبر، ونتأكد أن وراء “ماكرون” الآن قارة أوروبا الفاعلة في مصير العالم تاريخياً، وفي منطقتنا خاصة، وأن “المسألة الشرقية” لا تزال حيّة، وسيكون لها تطوُّرات لا بُدَّ أن تكون قضيتنا السورية في صلب تفاعُلاتها؛ وعلينا أن نكون مستعدين لكل تطوُّراتها.