لم يكن الغزو الروسي لسورية من أجل إيجاد حل سياسي للقضية السورية؛ بل كان منسجماً إلى حد التطابق مع الخيار الذي نهجه نظام الاستبداد منذ أن قرَّر أن يواجه انتفاضة الشعب السوري بالحديد والنار، تطبيقاً لشعار “أحكمها أو أدمرها”. ولو كان ذلك التدخل لإيجاد حل سياسي، لما تم أو حتى دُعي أو رُحِبَ به أساساً. مع تطور القضية السورية وارتفاع منسوب الدم والدمار والجريمة التي ولدتها وحشية النظام الأسدي، كان لابد من التدخل الدولي الذي ترافق بتحرك من مجلس الأمن؛ فكان بيان جنيف في العام الثاني من الصراع؛ وعندما استعصى تطبيقه، كانت النسخة الأرخى منه، والتي أُطِلقَ عليها القرار 2254.
كثيرة هي المرات التي تدخَّل فيها مجلس الأمن بالقضية السورية بغية وقف تغوّل النظام بدماء السوريين، إلا أن روسيا كانت تحول دون ذلك عبر الفيتو الذي تجاوز استخدامه الخمس عشرة مرة. هذا واستهلكت الأمم المتحدة ثلاثة مبعوثين خاصين، وبطريقها لاستهلاك الرابع للدفع بالقضية السورية سياسياً إلى حل يوقف المأساة؛ وكان البند الأول في القرارات الدولية ذات الصلة “وقف إطلاق النار” الأمر الذي يكبّل النظام وداعميه، ويوقف ذلك المد التدميري الذي حل بسورية وأهلها، لأنهم عصوا نهج النظام الإخضاعي؛ ما جعله يتغول أكثر بالجريمة من قتل وتدمير واقتلاع واستخدام للأسلحة المحرمة. وكلما ضغط المجتمع الدولي تجاه تطبيق قراراته، سعت موسكو لابتكار مخارج إجهاضيه، وخاصة في الجزء المتعلق بوقف إطلاق النار.
كان الابتكار الأول للخلاص من المسار السياسي في جنيف هو خلق مسار جديد في /أستانا/ تحت يافطة أن “مسار جنيف” بلا جدوى، وكان تركيزها الأساسي على إجهاض وقف إطلاق النار المذكور كبند أساسي في القرارات الدولية. فبعد اتفاق أنقرة 2016، الذي رعته روسيا وتركيا، بدأ أستانا وخرج بفكرة جهنمية سماها الروس “مناطق خفض التصعيد”، وكانت مهمة النظام- وبدفع إيراني، وحتى روسي- إعادة السيطرة على تلك المناطق واحدة بعد الأخرى. وكي يتم الإجهاز على مسار جنيف السياسي بالمطلق، سعى الروس إلى إضافة بعد سياسي لأستانا ذاتها، وحدث ذلك عندما دفعوا بمسودة دستور في إحدى جولات أستانا، كجزء من سعيهم إلى إفراغ القرارات الدولية – التي تجلب حلاً سياسياً لسورية – من مضمونها، عبر تكثيف القضية السورية بكتابة أو تعديل دستور.
وعندما عجزت أستانا عن حمل هذه المهمة، قدمت موسكو إبداعاً جديداً تمثل بعقد /مؤتمر سوتشي/ الذي كان تشكيل ” لجنة دستورية” أحد مخرجاته. ولما كان أي حل سياسي للقضية السورية ليس موضع قبول من النظام وداعمته العضوية إيران، ولما أظهرت موسكو جدية – على الأقل إعلامياً – تجاه العملية السياسية الدستورية، عبّر نظام الأسد عن رفضه لبيان سوتشي، وأخرج بياناً ختامياً لمؤتمر سوتشي حسبما أراد نتائجه؛ إلا أن الروس زجروا خطوته تلك، على الأقل وحبر بيان سوتشي الأصلي لم يكن قد جف بعد؛ كي يُرمى جانباً.
أكثر من عامين مرّا على قرار تشكيل لجنة دستورية، ولا تزال تنتقل من غرفة عناية مشددة إلى أخرى؛ وها هم الروس أنفسهم يقولون “لا تغيير في الدستور؛ ومن يرجو تخفيضاً لصلاحيات الرئيس واهم”. أما المبعوث الرابع، فلا يقدم إحاطة إلا ويوهمنا بأن كل شيء يتم في سياق القرار 2254. وها هو يبتدع مسألة “الخطوة- بخطوة” حتى يأتي على القرار إياه، ويعيد تأهيل منظومة الاستبداد، ويدعو إلى جولة سابعة، بعد أن قال بعظمة لسانه أن ما سبق كان مخيباً للآمال، دون أن يسمّي بوضوح المتسبب بذلك؛ والأدهى والأمرّ هناك من المعارضة من سيستجيب لدعوته صاغراً لطلب الرعاة، لا إلى صوت ملايين السوريين الرافض لمبدأ الخطوة بخطوة، وعبثية تلك الاجتماعات المهينة.
وللتمهيد لخلق هذه الصحوة السورية، عبّر مجموعة من أعضاء هيئة التفاوض عن رفضهم للعب موسكو بالعملية السياسية ورفضهم لمقاربة المبعوث الدولي “خطوة بخطوة” انسجاماً مع الرفض الجماهيري السوري لتلك اللعبة المشبوهة، ودعوا لعدم الاستجابة لدعوة بيدرسن إلى جولة سابعة لاجتماعات عبثية في جنيف من شأنها إراحة المستبد والمحتل. والآن، ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، وانكشاف الإجرام البوتيني، والحصار العالمي لروسيا، والتناقض السياسي الذي وقع فيه بوتين عندما حمى منظومة الاستبداد الأسدية تحت يافطة الحفاظ على وحدة واستقلال وسيادة الدول، وعدم تغيير أنظمتها بالقوة، وغزوه لأوكرانيا ليفعل تحديداً الشيء الذي نهى عنه؛ تتوفر فرصة نادرة للسوريين للاستفادة من هذا الإجماع العالمي على قطع تمديدات ووحشية أذرع بوتين، والدعوة لإنصاف السوريين وقضيتهم من أجل استعادة حياتهم وبلدهم حراً سيداً ومستقلاً.
وأول ما يمكن القيام به هو التهيئة لمقاومة شعبية للاحتلال وأداته الاستبدادية الأسدية، ودعوة لجلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة- على غرار جلسة أوكرانيا- مستفيدين من المبدأ الأممي “الاتحاد من أجل السلام” لاستصدار قرار ملزم يخرج سورية من ربقة الاستبداد والاحتلال.