يُمنع، عادة، على المراسلين الإخباريين، تمرير وجهات نظرهم داخل متن الخبر الذي يرسلونه لصحفهم، أو مواقعهم الإخبارية، أو قنواتهم الفضائية، وقد بات هذا الأمر مع مرور الأعوام والعقود، عرفاً صحافياً، وجزءاً من أخلاقيات المهنة.
إلا أن تصريحات "غير بيدرسون" المبعوث الدولي إلى سورية، فجّرت داخل وجداني ينابيع غضب، جعلتني أتمرّد على أعرافٍ ظللتُ لثلاثة عقودٍ ألتزم بها، وعلى ضوابط مهنية ميدانية خلال متابعاتي وتغطياتي ونشري الأخبار في مختلف الحقول الإنسانية تقريباً: الثقافية والفنية والمجتمعية والأدبية والسياسية والرياضية والاقتصادية والدينية والعلمية والمعمارية والمتنوّعة.
فبيدرسون هذا يُهدِرُ بجرّة تصريح طائش -أطلقه وهو يحظى بضيافةٍ سبع نجوم في طهران الملالي والنظام المنغلق على نفسه وأجنداته- دم أزيد من مليون سوري. وكما لو أنه يقول إن أحداً لم يَعُدْ يطالب بكرامة الشعب السوري، ولا بأحلامه بالحرية، وحقّه بحياة تمنحه الحد الأدنى من الإنصاف، وتكافؤ الفرص، وتقهقر الفساد، وسيادة الطمأنينة والعدالة والرفاه. ولم يَعُدْ أحد يطالب بالقصاص القانونيّ، على أقلِّ تقدير، إن كنّا وصلنا إلى أبواب مسدودة بالنسبة للقصاص الميدانيّ، لِمَن قتل هؤلاء، وشرّد أكثر من نصف الشعب السوري، وجعل نصف النصف الآخر نازحين داخل بلدهم.
لا أحد يطالب بإنصاف زُهاء مليون ونصف المليون سوري فقدوا، إلى الأبد، ممكنات حياة بلا إعاقة دائمة، وحُرِموا أن يكونوا ضِمن المشمولين بآية قرآنية: "لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَانَ فِيٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ" (سورة التين، آية 4).
وفي حين أن الخالق، جلّ في علاه، سيغفر لهم فشلهم بالمحافظة على التقويم الذي وُلدوا عليه، فهو لن يغفر لكلِّ مَن تُسوِّل له نفسه عدم محاسبة مَن جعلهم كذلك.
لا حقوق لـ 86 ألف إنسان، معظمهم أطفال ونساء، بُترت أطرافهم، ولا فضاء دافئ مستعد لسماع أنّات أرواحهم، والحجم الفادح من علامات سؤالهم: لماذا، إذاً، طالما أن الوضع سوف يبقى على ما كان عليه؟؟؟!!!
لا حقوق للأسواق التاريخية التي دُمِّرت، ولا آلاف البيوت التي خُرِّبت، أو نُهِبت (عُفِّشت على رأي إخوتنا السوريين).. لا حقوق لِمئات آلاف الأرامل، كثير منهنّ بعمر الصِّبا والشباب. فإذا بهنّ يصبحْنَ، في عشيّةٍ غاب ضحاها، بعمر الأسى واليَباب.
لا حقوق للمخطوفين المختفين قسراً. لا حقوق للأسرى القابعين في أَعْتَى سجون العالم. عِلماً أن مجموع هؤلاء وهؤلاء لا يقل عن 191 ألف حلم توارى في الغياب، بينهم 4931 طفلاً، و9271 سيدة، و1800 من أبناء وجعي الفلسطينيّ.
لا حقوق لأحياءٍ كاملةٍ اُغتُصبت واشتراها الإيرانيون بثمنٍ بخس. لا حقوق للذاكرة والألم ومفردات الوجود.
أنا الفلسطيني/الأردني محمد جميل خضر أطالب بتغيير النظام في سورية، فهل أنا: لا أحد؟ أطالب بمعاقبته على جرائمه واستقوائه بقوى الشر في العالم: إيران الفارسية وروسيا المافياوية ومن لفّ لفيفهما، فهل أنا صفر على اليسار؟
الأصل ومنطق الأشياء يقول: إنَّ لا أحد بقي يطالب ببقاء مندوبٍ أمميٍّ غير محايد بعد كل هذا الانحياز لأعداء الشعب السوري.. لا أحد يملك ذرّة من أخلاق، وهَبابةً من إنسانية، ولمحةً من حسٍّ عروبيٍّ إسلاميٍّ مُبين، يقبل بما (أفرزه) هذا (البيدرسون) من مكارِهَ تُزْكِمُ روائحُها المتحلّلةُ العَفِنة، أنوفَ الحياةِ والكرامةِ والمعنى.