لم تكن أجراس الكنيسة تلك التي قرعها فرانسيس بابا الفاتيكان قبل أسبوع وإنما أجراس الخطر المنذرة بكارثة اجتماعية تمسّ الوجود المادي للإنسان الأوروبي عندما قال: "نرى أن بعض الناس لا يريدون إنجاب الأطفال والكثير من الأزواج ليس لديهم أطفال لأنهم لا يريدونهم، أو لديهم كلب واحد فقط، أو لديهم كلبان وقطتان… نعم، الكلاب والقطط تحل محل الأطفال إن إنكار الأبوة أو الأمومة هذا ينقص منا، ويسلب إنسانيتنا وبهذه الطريقة تصبح الحضارة قديمة وبلا إنسانية".
ولعل أول المستيقظين على قرع الأجراس كان وزير الدولة لشؤون الأطفال في فرنسا "أدريان تاكيه" الذي عبر عن رغبته في مراجعة الحد الأدنى للموافقة على علاقة سفاح القربى، والمحددة حالياً عند 18 عاماً، بعد أن حددت فرنسا سن ممارسة العلاقة الجنسية غير المجرَّمة في حدود 15 سنة.
بهذه الكلمة عبَّر البابا عن خطر الشيخوخة والتناقص السكاني الداهم الذي يحيق بأوروبا والغرب بسبب العزوف عن الإنجاب لكن البابا في تحذيره الجادّ أتى على ذيول المشكلة بدون أن يتطرق لجوهرها، ودفع لإسعاف الحلول بدون ذكر العلاج ربما لأن معالجة مثل هذه القضية الاجتماعية من التعقيد بمكان والحيز الفكري والأخلاقي فيها يمس في بعض جوانبه تعاليم الكنيسة بالتحديد الكنيسة الكاثوليكية التي تمنع رجال الدين من الزواج والبابا نفسه الذي يعظ الناس ليس له زوجة وأبناء لكن ليس هذا جوهر المشكلة فقط.
إن جوهر هذه المشكلة التي تؤرق البابا كامنة في المنظومة الفكرية والأخلاقية العدمية التي باتت تشكل سلوك وثقافة الإنسان الغربي عموماً بعيداً عن الإصغاء لتعاليم الكنيسة إنها مزيج من عدمية شوبنهاور الذي يعيد تفسير معنى الخطيئة والتطهر بغير ما تعرفه الكنيسة؛ فالخطيئة عنده باتت هي وجودنا في هذه الحياة ولا تطهير لنا من هذه الخطيئة إلا بالموت مستصحِباً أفكار الفيلسوف الفارسي "ماني" الذي دعا للعزوف عن الزواج لإيقاف الإنجاب استعجالاً لفناء العالم وانحداراً نحو الانقراض الطوعي للخلاص من هذه الحياة التي لا معنى لها ومن عبثية "ألبير كامو" الذي يرى الإنجاب مجرد عملية عبثية لا معنى لها إلا الشقاء والعذاب مستصحِباً فلسفة "أبي العلاء المعري" الذي عد الإنجاب مجرد جناية على الأبناء وخطيئة كبرى عندما عبر عن ذلك بقوله: "هذا ما جناه عليَّ أبي وما جنيتُ على أحد".
ثم جاءت فلسفة السيولة وما بعد الحداثة مع ربيبتها النسوية الراديكالية لتفترض أنه ثمة ثالوث ظالم للمرأة، وهو بالتأكيد ليس ثالوث الكنيسة وإنما ثالوث الدين والنظام الأبوي والنظام الاجتماعي ولا بد من تفكيك هذا النظام الأبوي الذي يعطي السيطرة للزوج على المرأة وللدين الذي يهضم حقوق المرأة وللنظام الاجتماعي المحافظ الذي يفرض تابوهاته المجحفة بحق المرأة كمقدمة لا بد منها لتحرير المرأة من ربقة الاستعباد وتأسيس منظومة حقوقية على فلسفة ما بعد الحداثة التي تنطلق من هدم كل النظم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية واللغوية وإعادة تأسيس الحقوق على قاعدة الحقوق المادية الطبيعية التي يفرضها مبدأ الفردانية الأنانية التي لا ترى إلا ذاتها واللذة الخالية من المسؤولية ليخرج منها تيار اللاإنجابية الذي يحتقر الأمومة ويراها ضرباً من الاستعباد والتعدي على حرية المرأة في تصرفها بجسدها، ولاستكمال عملية الهدم والتفكيك تم إسقاط الدارونية البيولوجية على العلاقات الاجتماعية لتظهر الدارونية الاجتماعية التي تعيد تأسيس العلاقة بين الرجل والمرأة وتحويلها على أساس الصراع المستمر على الحقوق بدلاً من الحب والسكن، ثم جاءت فكرة إلغاء الهُوِيَّة الجنسية على أساس الذكورة والأنوثة وابتداع هُوِيَّة جنسية بيولوجية مشتركة هي الخُنْثويَّة النفسية والسلوكية ورفض تحديد المجتمع للهُوِيَّة الجنسية للفرد وإتاحة عمليات التحول الجنسي لمن يريد باعتبارها جزءاً من الحقوق الطبيعية للنوع الاجتماعي.
لم يكن العائد الأخلاقي والاجتماعي من هذه المنظومات الفكرية السائلة سوى انهيار المجتمع المتماسك لبناء مجتمع جديد يتمركز حول الأنثى ويحول دورها الاجتماعي من الأمومة والتربية إلى أداة تجارية دعائية واحتقار دورها في أداء رسالة الأمومة وحل مؤسسة الأسرة كآخِر صرح لتربية الإنسان وضمان حقوق الشواذّ.
يبدو أن ما حذر منه البابا أعمق من كونه انشغالاً بتربية القطط والكلاب عوضاً عن الإنجاب وأعمق من كونه مجرد أنانية نزقة، يبدو أنه تحوُّل جذريّ لدى الإنسان الغربي في فهم الحياة والعالم ويبدو أن الكنيسة وتعاليمها باتت ناقوساً يدق في عالم النسيان.
وأن خروج العالم الغربي من هذه الأزمة الاجتماعية والشيخوخة الحضارية بحاجة لصدمة وصاعقة تعيده لجادة الفطرة والعقلانية وتنتشله من دوامة الجنون والفوضى، بعد أن يكتوي بنار السيولة الحارقة، ويترع مرارة اللهث وراء ما دبجته العدمية والعبثية من أكاذيب وأوهام أسكرت وعيه وقذفته في غيبوبة التمرد والجنون.