في نهاية عام 2013 كنت أجلس في غرفتي حاملاً ورقة وقلماً أفكر في مخطط العام المقبل، إلا أن قصف الطائرات وأزيز الرصاص وصوت المدافع كان يقطع أفكاري لأكتشف بعد بضع ساعاتٍ أنني لم أدخر شيئاً مُهمّاً للعام التالي، وأذكر أنني رميت القلم والأوراق في مدفئة مهجورة علها تشتعل يوماً ما فتحرق خربشاتي، وانطلقت أعزي نفسي بأنه ما من فائدة للتخطيط وأنا لا أضمن نفسي أن تبقى لأغادر غرفتي فكيف سأضمن خطة شخصية لعام كامل!؟.
يعيش عدد كبير من البشر اليوم في ظروف يهيمن عليها عدم اليقين وتهددها الجوائح والكوارث والأزمات، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل كلنا نراقب ما يحصل من حرائق في معظم دول العالم وجائحة "كورونا" التي أودت بحياة عدد واسع من الأشخاص من مختلف الأعمار والأجناس، ولم ينحصر أثر هذه الكوارث على الأفراد بل كَمْ من شركة أعلنت إفلاسها وكَمْ من مؤسسة أغلقت أبوابها، بل إن بعض الدول والحكومات تصرخ اليوم بأعلى صوتها أن أَغِيثُونا، ولا أقصد أن أشير إلى سوداوية الوضع وقتامة المشهد فثَمَّة الكثير من الفرص المتاحة والمساحات المشرقة، ولكن ما أدور حوله هو ضبابية مختلف المواقف واستثنائية الأحداث لدرجةٍ تعجز الأضواء الساطعة على استكشاف مسافات إضافية فيها أو استشراف مستقبل قريب يتلوها.
ما نفع التخطيط فعلياً في ظروف عدم اليقين؟ وهل فعلاً تحتاج المؤسسات والأفراد إلى خطة سنوية أو لمدة أطول؟.. كلها تساؤلات تبدو أكثر حضوراً مع اقتراب نهاية العام وبَدْء موسم التخطيط، موسمٌ ينتهي خلال فترة قصيرة كقاربٍ صغير تصنعه يدٌ ماهرة محمل بعشرات الخطط الصغيرة المحبوكة لتتلاطمه الأمواج بقية حياته، ولعلنا ندرك في مثل هذه المواقف أهمية المرونة وتعديل الخطط والإستراتيجيات والتي تعزز لنا نفس السؤال عن فائدة التخطيط في حال قررنا تعديله في وقت لاحق.
يُعتبر التخطيط وظيفة إدارية عريقة، فكما يقول أحدهم: "أحبك والبقية تأتي…" فالإدارة هي تخطيط وبقية الوظائف تأتي، ورواد عِلْم الإدارة لا يختلفون أبداً على أهمية التخطيط وعلى دوره في إدارة المؤسسات وإدارة الحياة بأسلوب منظم، ولكن مع تطوُّرات العصر وتسارُع الأحداث وغموض المواقف نقف حائرين أمام معضلة زجاجة التخطيط التي نضع ضمنها كل أعمالنا والتي قد تكسرها الأحداثُ المتغيرة أو مركب لا تواتيه أي رياح هبت عليه؛ لأنه لا يعرف وجهته.
تدور معظم تعريفات الإدارة حول تحقيق الأهداف باستغلال الموارد المتاحة بكفاءة من خلال مجموعة من الوظائف أبرزها التخطيط ويُجمِع رواد الأعمال ومعلمو الإدارة على أنه ما من إدارة بدون تخطيط. وأمام واقعٍ ذكرناه فلا بد من تخطيطٍ عريض الخطوط يبتعد عن التفاصيل ويأخذ بعين الاعتبار المخاطر الخارجية المحتملة أو الناجمة عن العملية الإدارية نفسها، مع أهمية كبيرة لأن يكون الفريق مؤهلاً وكفؤاً بحيث يتعامل مع التغيرات والتحولات في الخطة، فأهمية الفريق تكاد تفوق أهمية الخطة نفسها.
وتسود في عالم الأعمال اليوم "منهجية أجايل" أو ما يعرف بإدارة المشاريع بأسلوب رشيق، حيث يتم التركيز من خلال أسلوب "أجايل" على الفريق أكثر من الخطة، على الموظف أكثر من الهدف، كما تدمج هذه المنهجية العملاء وأصحاب المصلحة بالأهداف والتطلعات التي تنشدها المؤسسة وتعمل المنهجية على بناء فِرَق صغيرة لتحقيق أهداف صغيرة ولكنها متراكمة، لا نريد أهدافاً بعيدة هنا، ولكننا نتطلع إليها عَبْر تحقيق أهداف صغيرة متراكمة يمكن تخطيطها عَبْر الفريق بحسب الموقف وتترك لهم كيفية تنفيذها بالاشتراك مع أصحاب المصلحة.
هكذا نجد أنفسنا أمام منهجٍ بمساراتٍ عريضة تُفضي إلى تطلُّعات وأهداف بعيدة المدى دون التمسك بتفاصيل التنفيذ التي قد تعطلها التحوُّلات وتكبح تحرُّكها بيئة العمل، حيث نترك هذه التفاصيل لِمَا قاله الشاعر: "دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطِبْ نفساً إذا حَكَمَ القضاءُ" دون أن نكلف أنفسنا عِبْء التمسك بتفاصيل وُضعت في ظروف مختلفة.