إن مَن يحكمون على ثورات الربيع العربي خلال عشر سنوات فقط لديهم قصور نظر مخيف وجهل مرعب بالتاريخ ويمتلكون قدراً هائلاً من الخفة والجراءة وطفولة الوعي والتصور. كمن يرى البراعم الصغيرة حين تنفلق من الأرض الجدباء أول الربيع فيطلق حكمه فوراً أن أزهار الربيع هذا العام صغيرة والأرض شاحبة والخضرة شحيحة.
مفهوم الثورات وفلسفتها تقوم على علاقة عكسية تماماً مع نظرية ابن خلدون الشهيرة في مقدمته عن مراحل حياة الأمم حيث تبدأ بالطفولة مروراً بالنضرة والشباب ثم بالكهولة ثم تنتهي بالشيخوخة ثم الفناء.
الثورات عكسها تماماً تبدأ خافتة مرتعشة بعد أن حنى ظهرها الذل والظلم وحفر الاستبداد والعسف على وجوه مشعليها أخاديد عميقة وظاهرة، ثم لا تزال تتدرج في مراحل التعافي حتى تستوي على أشُدّها.
كثيرة هي مراحل التاريخ التي نفاخر بها، لكننا نختصرها في عبارات تلتقط الصورة النهائية للانتصار والعز والفخار ونطوي بالمقابل المراحل المؤلمة والكئيبة والسنين الطوال التي مرت بها لأن الإنسان بطبعه يميل لما هو مبهج ويحاول تناسي ما هو كئيب فنقول: حرر صلاح الدين رحمه الله المسجد الأقصى… جميل.
لكن ما هي تكلفة تحريره؟ وكم استغرق تحريره؟ وما هي التضحيات التي بذلتها أجيال لتحريره؟ طي إحدى وتسعين سنة من الألم والدم والدمع، والتضحية والفداء والإعداد، والصعود والهبوط، والمد والجزر، والألم والأمل، منذ لحظة احتلال القدس والأقصى وتدنيسه حتى يوم تطهيره وتحريره هي قراءة سطحية وساذجة ومجتزأة للتاريخ تصلح لحكايات ما قبل النوم وليس لاستخلاص الدروس والعِبَر واستمداد العزيمة واستلهام النموذج.
العشر سنوات والعشرون سنة وحتى الخمسون سنة ليست كافية للحكم النهائي على حركة التاريخ الضارب في القدم، المتأني في مسيرة أيامه، والبطيء جداً في حركته وتقلباته. نبرة الإحباط واليأس التي يتردد صداها اليوم في قلوب الشعوب المقهورة، والحشرجة المسموعة من أصواتهم وكتاباتهم وتعليقاتهم ليس لها ما يبررها أبداً!!!
إن عشر سنوات في حركة التاريخ تشبه رجلاً جالساً على طرف كرسي فأخذته سِنَة من النوم للحظة فانتبه منها على الفور فَزِعاً.
لو لم يحقق الربيع العربي (رغم فداحة التضحيات) سوى إحياء موات الشعوب الراسفة في أغلال الخنوع والاستكانة منذ عقود، وإيقاظ الوعي الحقيقي لكفى، بل لكانت مدة قياسية وإنجازاً ضخماً لا يجب إنكاره أو تجاهله.
لا زال ربيع الحرية في بداية انطلاقته بل في اللحظات الأولى لحلوله، وسيتعرض لعوامل جوية كثيرة طارئة وشديدة القسوة قبل أن تكتسي الأرض بالخضرة وتُزهر البراعم وتنضج الثمار.