شكل الإعلان عن غرفة القيادة الموحدة (عزم)، ثم الجبهة السورية للتحرير، تحريكاً للمياه الراكدة في مناطق عمليات “درع الفرات”، و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، وأعطى مؤشراً على عدم تلاشي الرغبة بالتغيير لدى الجهات العسكرية الفاعلة، والتي تعرضت خلال الفترة الممتدة من 2016 حتى يومنا هذا إلى انتقادات كثيرة، واتهامات بفِقْدان هامش القرار والتورط بانتهاكات.
رغم الإقرار بالحالة الإيجابية وتلمس بوادر التغيير ومحاولات الإصلاح، لكن ثمة مخاوف أن تتجه الأمور إلى سيناريو غير مرحَّب به بالنسبة للمنطقة والحاضنة الشعبية، ألا وهو التنافس على الشرعية والموارد، والوصول إلى مرحلة الصدام.
لا يمكن القطع حتى اللحظة بأن الأهداف التي جعلت الفصائل تندمج ضِمن “الجبهة السورية للتحرير” واحدة، إذ تقدم “عزم” سردية، تتحدث فيها عن أن بعض الفصائل غادرت القيادة الموحدة هرباً من استحقاق الإصلاح ومن متطلبات مكافحة الفساد بالاستقواء بكتلة أكبر، ولذلك تضغط “عزم” باستمرار على قيادة “الجبهة السورية للتحرير” الجديدة، وتلوح بعدم اعترافها بالواقع الجديد؛ لأنها تريد أن تفتح ملف كل فصيل من الفصائل على حِدَةٍ، في حين تتمسك قيادة الجبهة السورية للتحرير بأن المشروع قام بدوافع إصلاحية، وهذا ما توافق عليه الجميع، بالتالي لا داعيَ لاستخدام الضغوطات والقوة العسكرية، ولا بد من إفساح المجال لقيادة الجبهة لتستكمل خطوات إعادة الهيكلة والإصلاح الإداري والعسكري.
بالمقابل هناك مؤشرات على وجود تيار داخل غرفة عمليات “عزم”، يفضل اللجوء إلى الخيار الأمني والعسكري ضد بعض فصائل الجبهة السورية للتحرير؛ لأنه يعتقد بالحل الراديكالي الذي يزيل أساس المشكلة، ويرى أن مقاربته ستزيد من الرصيد الشعبي لغرفة العمليات الموحدة، وبالوقت ذاته ستُضعف الطرف الآخر وتفوّت الفرصة على بروز “منافس جديد”.
تبدو فصائل الجبهة السورية للتحرير أمام اختبار حقيقي، فإما أن تثبت على المستوى القريب أنها مشروع إصلاحي فعلي، وتمضي في دمج المكونات، وتُبعد القيادات الإشكالية التي تورطت في انتهاكات مع الحاضنة الشعبية عن المشهد، أو أن “عزم” ستجد ما يثبت سرديتها بأن المشروع وهمي ومحاولة هروب من استحقاقات الإصلاح، وهذا قد يُحرج قيادتها أمام مطالب “عزم” المستمرة برفع الغطاء عن فصائل معينة من أجل معالجة وضعها أمنياً.
على الطرف الآخر فإن مُضيّ قيادة “عزم” مع الرأي القائل بالمقاربة العسكرية والأمنية والعمل على فرض أمر واقع من خلال نشر حواجز عسكرية والتضييق على الجبهة السورية للتحرير، سيعطي مؤشراً على أن المسألة لا تتعدى فكرة فرض سلطة أمر واقع على غرار ما حصل في إدلب وشمال شرق سورية، وأن عملية الإصلاح ليست جدية، فهذه المقاربة ستكون تفويت لفرصة الإصلاح بالتنسيق مع قيادة الجبهة السورية للتحرير، والتي على الأرجح ستكون نتائجها مضمونة أكثر من الجنوح للصدام، على اعتبار أن أي شرارة في المنطقة من المحتمل أن تؤدي إلى احتراب مكلِّف، قد يتخطى الفصائلَ ويأخذ بُعداً مناطقياً أو عرقياً.
من الواضح أن بعض التيارات داخل الفصائل السورية تأثرت وتتأثر بالتجارب الأخرى، سواء التي حصلت في سورية أو خارجها، والتي كان آخِرها تمدُّد حركة طالبان في أفغانستان، وتعمل بشكل متكرر على الاقتباس منها، لكن هذا يتم دوماً دون الانتباه إلى أن الحالة السورية مختلفة، ولها سياقاتها، وأن التجارب الأخرى قد تكون في كثير منها استنساخاً لحالة سورية ما قبل الثورة، من حيث تقوية القبضة الأمنية وإقصاء المخالفين، والتخلص من الأطياف الأخرى، وعدم مراعاة الحاجة إلى التنسيق والتكامل ضِمن إطار جامع، وقد يكون من الخطأ الفادح العمل على صبغ المنطقة بالكامل بلون واحد كما حدث في إدلب.
يبدو أن المخرج الوحيد للفصائل العسكرية المنضوية ضِمن الجبهة السورية للتحرير وعزم، هو الاستمرار بالنقاش من أجل استكمال الهياكل التنظيمية، ثم الانخراط في حوار يؤدي إلى توحيد الكُتليْنِ ضِمن إطار تنسيقي أو اندماج، وَفْق أسس تراعي مصالح الأطراف جميعاً، ولا تشعر فيها أي جهة أنها تعرضت للتهميش أو الإقصاء، الذي يدفعها إلى التشنج في مواجهة الطرف الآخر، والعمل على إنضاج مشروع إداري وعسكري وأمني واحد يضمن إنهاءَ الحالة الفصائلية.