كان من المحبَّب لدي أن أكتب في الديمقراطية باتساعٍ في يومها الدولي.
ولكن لكون الديمقراطية في جذرها الأول ابنة مسار شاقّ لتحقق دولة الحقوق والمواطنة، وانبعاث الحريات والإمكانيات، العامة منها والشخصية، وربطها بالمسؤولية القانونية والأخلاقية أيضاً.
وبما أن هذا المُركّب العجيب المسمى "ديمقراطية" لا زال جنيناً قيد التشكل في عالمنا المسحوق سياسياً ومجتمعياً وثقافياً، تشوهه نزعاتنا الذاتية وأهواؤنا الشخصية سواء كانت مخلصة ووجدانية أم مجرد خيالات وأوهام، أجد من الضرورة بمكان تناول تلك الفروق الهامة بين قول وقول آخر. وحتى لا يستتر المعنى وتذهب فحوى دلالته، سأذهب في خلاصة عامة لتحديد نماذج القول التي توفر المساحة الواسعة لممارسة الديمقراطية كمسؤولية وحرية بآنٍ.
استسهال القول، والخلط بين نماذجه التي باتت متاحة وعمومية اليوم، تستلزم بالضرورة وضع جملة من الفوارق الهامة بين أنماط الكتابة المتعددة والمتنوعة. فالفرق بين القول الجزافي والرأي فرق في القيمة والحقوق والمسؤولية. فحيث تكون حرية الرأي مصونة قانونياً، لكنها بذات الوقت تخضع للمسؤولية القيمية والقانونية بآن، خاصة وإن خرجت عن نواظم الهدف العام للرأي بصفته رأياً يُطرح على العلن وأمام الرأي العامّ في مسائل الحياة متعددة المناحي والجوانب.
وإلا تحولت لنموذج من القول الجزافي سهل التداول بلا أية مسؤولية سوى الاستسهال المفرط كمن يهرج بأي كلام في "مضافة" أو "ديوانية" محلية يتاح فيها كل أشكال الكلام دون مسؤولية أو قيمة. فكيف وإن كانت هناك فروق جوهرية بين أنماط الكتابة المحررة على المواقع والصفحات الإعلامية والمراكز البحثية.
مقال الرأي والدراسات والبحوث والتقارير وتقدير الموقف وغيرها الكثير، كأبرز الأوراق المحررة، تندرج جميعها كمجالات واسعة لتحرير الإمكانية، والوصول للرأي العام والتأثير باتجاهاته المتعددة، كما لفتح بوابات الحوار متعدد الأطراف حين تطرح أمام الرأي العام. غرضها الأهم، على اختلاف طرقها، الأخذ بمحتواها ومضمونها من قِبل الفاعلين والمهتمين سواء بالشأن العام سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، إجرائية مطلبية كانت أو جذرية تغيرية عامة، أو الشؤون الثقافية والإعلامية والأدبية النقدية منها أو المحدّثة.
وحيث تكون مجالات البحوث والدراسات مجالات متخصصة هي الأصعب والأكثر جهداً ومشقةً، فهي تحتاج لتوافر عوامل عدة متكاملة أهمها اعتماد منهجية بحثية موثوقة من مناهج البحث العلمية و/أو المعرفية، وطرق الربط بين موضوعات متعددة تُفرد على محاور وفصول، والتوثيق المنهجي الدقيق.
العوامل الثلاثة الرئيسة هذه في نجاح بحث أو دراسة بحثية شروط لازمة لكنها غير كافية، وكفاية الإنجاز هنا تتجلى في أمرين هامين: الأول عدم إتاحة مساحة واسعة للرأي الذاتي للكاتب إلا في المقدمة العامة وبعض التوصيات النهائية. وهذه الأخيرة، التوصيات الختامية، تحتكم لمعطيات الدراسة ونتائجها ما يتيح لخبرة الباحث تقديم رأيه الشخصي فيها جزئياً. والثاني هو الخُلاصة العامة والتي تصاغ بجمل قصيرة تغطي كامل مساحة البحث، وتكون لغتها أبعد ما تكون عن الذاتية والرأي بقدر التنكير أو ما يسمى لغوياً صيغة الغائب، حيث إن الغرض العامّ لهذه الصياغة هو إثبات أن البحث قد أُنجز وبات بين يدي المحكّمين المختصين ومن بعده الرأي العامّ وليس ملك صاحبه، وهذا فرق جوهري.
هذا، بينما يبدو مقال الرأي أكثر سهولة من غيره من الأوراق، لكنه يتمتع بجملة من الصفات وآليات الكتابة، أهمها أنه تعبير عن رأي كاتبه من خلال تناوله قضية ما مجتمعية أو سياسية أو ثقافية وغيرها. ومع أن حرية الرأي هي متن مقال الرأي وفحواه، لكنه يحتكم بالمبدأ لقدرة وإمكانية الكاتب على تناوُل قضايا عامة من خلاله، وعليه إقناع قرائه بمبرراته وأسبابه وطرقه، وبرأيه الشخصي أيضاً، وهذا يستلزم الجهد والخبرة والقدرة والإبداع أحياناً، وهذه مسؤولية أولاً وقيمة ثانياً ومساحة واسعة من الحرية أيضاً. الورقة الإشكالية بين الرأي والدراسة هي تقدير الموقف. وهذه الورقة تقع في منتصف المسافة بينهما، فهي ليست رأياً ذاتياً ولا دراسة منهجية بذاتها. هي ورقة موجزة تهتم بشكل أساسي بتحليل مسار أو متغيرات سياسية أو مجتمعية وغيرها، والوقوف على معطياتها من كافة جوانبها، وتكون موجهة كما دَرجَ القول "لمن يهمه الأمر"، أي لصناع القرار سواء على مستوى مؤسسة خاصة أو قوى مجتمعية محددة أو مؤسسات عامة حكومية أو أهلية أو مدنية. بحيث تتيح الورقة بمعطياتها إمكانيةَ تناوُل موضوعها بمرونة وفتح بوابات الخيارات الموضوعية لاتخاذ موقف من قضية معينة سواء متابعة أو تغير مسار أو تغير الخطط وبلورة موقف تجاه المتغيرات الطارئة. رغم أن ورقة تقدير الموقف ذات لغة محددة، لكنها إشكالية بحثية ولغوية. فهي تأتي بشكل خُلاصات موجزة مكثفة، بعد تقديم المعطيات الواقعية رقمياً أو عملياً، ما يجعل كل جملة فيها مجال دراسة أو بحث أوسع مستقبلياً، أو مادة رأي مستقلة لا تتيحها الورقة كتقدير موقف. وهنا تبرز الإشكالية المشار إليها، في كونها تفتح أمام غير المختصين أو المتمكّنين أو أصحاب الشأن المقصودين، بوابات واسعة للخلط بينها وبين الرأي المتاح بكل لحظة سواء كان رأياً مسؤولاً أو قولاً جزافياً!
في زمن انفتحت فيه بوابات النشر واتسعت رقعته أمام الجميع، خاصة مع انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك أو تويتر وغيرها، بعدما كان حكراً على أصحاب السلطات ومريديها، وفي سيرورة التغيير العامّ العسيرة في مجتمعاتنا التي تعاني كل صنوف الاستبداد والقمع، ثمة اختلاط عامّ سائد بين قول وآخر.
فإن كانت الكتابة بوابة تحرُّر واسعة اليوم ومستقبلاً فمن الضرورة بآنٍ أن يكون القول مسؤولية أيضاً، "فكلٌّ مسؤول عن كلماته" حسب إلياس مرقص، المفكر والفيلسوف السوري. فإن كانت الحرية الشخصية بإحدى تجلياتها مجازفة ومغامرة كبرى، لكن نتائجها تنعكس على صاحبها بشكل شخصي سلباً أو إيجاباً، بينما ممارسة الديمقراطية -ومنها الكتابة باختلاف صنوفها- هي مسؤولية وقيمة تحررية واتساع آفاق معرفية، ما لم تُوضعْ في سياقها العامّ فستتحول لجملة من الهذيانات الشخصية والأوهام الفردية وعدمية الفاعلية، لا بل مرايا مكبرة لتضخيم الذات الواهية، وهذا موقع مختلف عن الكتابة والقول العامّ.
زهرة "الحسن يوسف" على جمال منظرها عن بُعد، لكنها زهرة لا رائحة ولا نكهة لها، وعند الاقتراب منها ستجد أغصانها على ضخامتها المفرطة، هشة القوام سريعة العطب، لنموها المفرط السريع والأجوف! ويبدو هذا حالَ من لم يُتقِن الفرق بين الحرية والديمقراطية والهوى الفردي، وهذه وتلك فروق وحدود كما الفرق بين الياسمين وزهرة الحسن يوسف، وربما إمكانيات أيضاً! لكنه سياق عامّ ستفرزه الأيام والمواقف والرأي العامّ وصيرورة التشكل الجنيني التي أتمنى أن لا تطول زمن ولادته وحمله العسير.