تركيا 2023 كيف سيتخذ الناخب قراره؟
تعطي استطلاعات آراء الناخبين الأتراك بخصوص انتخابات 2023 نتائج متفاوتة لا يمكن الركون إليها في معرض توقُّع مَن سيحكم تركيا للسنوات المقبلة، فرغم أننا نستطيع القول بأن هناك ولايات مؤيدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وولايات مؤيدة لحزب الشعب الجمهوري، وحزب الشعوب الديمقراطي، إلا أن ذلك الكلام ليس كافياً لتوقع نتائج الانتخابات، فالمواقف تختلف بين المدينة والريف ضمن الولاية الواحدة، وبين حي غني وآخر فقير ضمن المدينة الواحدة، بل حتى قد يختلف الموقف ضمن الأسرة الواحدة، لذلك لن نعرف الحجم الحقيقي لكل حزب قبل إعلان نتائج الانتخابات، لكن يمكن لنا محاولة فهم ما يسمى في العلوم السياسية "مُحدِّدات السلوك الانتخابي" وهي العوامل التي تدفع الناخبَ لإعطاء صوته لهذا الحزب أو ذاك.
بداية تقف الأيديولوجيا على رأس هذه المحددات، وتتميز العوامل الأيدلوجية بأنها عوامل قليلة المرونة تجاه التأثر بالأحداث التي تجري خلال السنة الانتخابية، كونها تتشكل ببطء وعمر بعضها يعود لذاكرة سياسية تمتد عبر عقود خلت من تاريخ تركيا، ويبني العامل الأيدلوجي على عدة عناصر:
1- الانقسام التاريخي الحاد في السياسة التركية بين المتدينين والعلمانيين: وهذا الانقسام ليس على شكل الدولة العلماني، بل بسبب بعض الإجراءات المتطرفة التي ترتبط في ذاكرة الأتراك بحزب الشعب الجمهوري، ومن الصعب تصور قيام ناخب متدين من الجيل الذي عاصر فترة حظر الحجاب في تركيا بإعطاء صوته لمرشح حزب الشعب الجمهوري، أيضاً من الصعب تصور ناخب يعتنق الفكر القومي الكمالي بإعطاء صوته لأردوغان.
2- السياسة الخارجية المتوازنة: كثير من الناخبين الأتراك لا يثقون بالولايات المتحدة الأمريكية كحليف سياسي، بل ويعتقدون أن روسيا أكثر موثوقية كحليف لتركيا، ويعود سبب ذلك إلى تاريخ خذلان الولايات المتحدة لحلفائها، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفقدان تركيا لأهميتها الجيوسياسية كجدار صد للشيوعيين، وهؤلاء الناخبين يقدرون لأردوغان كثيراً عدم تبعيته للغرب في فرض عقوبات على روسيا إبان غزو أوكرانيا عام 2022، واتخاذه موقفاً متوازناً من الحرب.
3- الموقف من اللاجئين: هناك قسم من القوميين الأتراك المتطرفين يبدون مخاوفهم تجاه وجود اللاجئين في تركيا، ويرغبون بعودتهم لبلادهم، ويتبع هؤلاء القوميين في مواقفهم عددٌ كبيرٌ من مناصري حزب الشعب الجمهوري، وآخرون ممن يلقون تبعة تراجع الأوضاع الاقتصادية على اللاجئين.
4- المكون الكردي: الصوت الكردي ليس واحداً، فهناك التيار القومي - اليساري من الناخبين الأكراد في تركيا الذي يدعي مظلومية تجاه السلطة الحاكمة، ورغم أنهم أعطوا أصواتهم لحزب العدالة والتنمية في العقد الأول من حكمه، إلا أنهم لاحقاً قرروا حرمانه من أصواتهم، وهو ما بدا جلياً في انتخابات بلدية إسطنبول.
لدينا أيضاً المحددات الاقتصادية، وهي محددات أكثر مرونة بمعنى أنها قابلة للتأثر بالإجراءات التي تتخذها الأحزاب المتنافسة خلال السنة الانتخابية، وتتوزع هذه العوامل على عدة مؤثرات:
1- العمر: حيث تميل فئة الشباب للاستهلاك بشكل أكبر من الفئات الأكبر عمراً، ولكن رغم الإنجازات الاقتصادية الكبيرة في تركيا فإن التضخم حد من قدرة هؤلاء الشباب على التسوق، مما جعل قسماً منهم غاضباً وأكثر ميلاً لإعطاء صوته للمعارضة.
2- فئة الموظفين: وهؤلاء يتقاضون رواتب عالية نسبياً، مما يجعلهم يميلون للمحافظة على استقرار الأوضاع السياسية، وقد تذهب أصوات قسم كبير منهم إلى الحزب الحاكم.
3- الطبقة العاملة: وهي الطبقة الأكثر تضرراً من التضخم، بسبب تقاضي معظمهم الحد الأدنى من الأجور خلال عام 2022 حيث بلغ 5500 ليرة، والذي أصبح تافهاً بعد التضخم الذي ضرب الاقتصاد العالمي إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وربما يكون لرفع الحد الأدنى من الأجور إلى 8500 ليرة أثر على تعديل مزاجها وتهدئة غضبها.
4- طبقة من أتم أيام التقاعد: كان القانون سابقاً ينص على استحقاق المواطن مزايا التقاعد بعد أن تبلغ أيام عمله رقماً معيناً، ولكن لاحقاً تم وضع شرط آخر هو بلوغه سن الستين بالنسبة للرجل، والثامنة والخمسين بالنسبة للمرأة، مما أثار استياء عدد كبير من المواطنين ممن حقق أيام العمل فعلاً، ولكن في نهاية 2022 تم إلغاء هذا الشرط مما حول نسبة كبيرة من هذه الطبقة من الغضب إلى الرضا عن الحزب الحاكم.
المحددات الشخصية: وهي محددات مرنة إلى حد كبير بحيث تستمر بالتفاعل حتى لحظة دخول المركز الانتخابي، وهي متنوعة بشكل يصعب حصرها، ومنها على سبيل المثال:
1- رغبة البعض بأن يحكم تركيا رئيس قوي، لذلك هم يفضلون أردوغان الذي أثبت كفاءة في حكم تركيا خلال عشرين عاماً.
2- انقسام وتشتت أحزاب المعارضة، وبشكل عام لا أحد يحب المنقسمين بهذا الشكل.
3- التأثر بالدعاية الانتخابية وخطابات الأحزاب والأحداث التي يتم افتعالها خلال الانتخابات.
4- التأثر برمزية عام 2023 التي تصادف مرور مائة عام على ولادة الجمهورية التركية، والتي أصبحت مرتبطة بأردوغان الذي أطلق رؤية تركيا 2023.
5- الرغبة بالتغيير التي لا تستند لسبب سياسي سوى الملل من رؤية نفس الوجوه في الحكم.
في السياسة التركية لا يوجد شيء يقيني قبل أن يقع فعلاً، فالعوامل متداخلة بشكل كبير، وربما يدخل تحديد موعد الانتخابات ضِمن هذه العوامل، فيتم تغييره لموعد يناسب أكثرَ أحدَ الأطراف السياسية المتنافسة، خاصةً أن التضخم الذي يشكل أحد أهم العوامل الانتخابية، تصعب السيطرة عليه لفترة طويلة.