الإعلام الأصفر وأثره في الثورة السورية

الإعلام الأصفر وأثره في الثورة السورية

للصحافة والإعلام وجه حضاري يشمل مجالات التوعية، ومساءلة السلطة، ونصرة القضايا المُحِقّة، لكن أيضاً هناك وجوه مظلمة كنشر الشائعات، وإسقاط الشخصيات، والتحريض على الأذى، ومن هذا الوجه المظلم أتى مصطلح "الصحافة الصفراء".

الصحف الرسمية الرصينة كانت تُطبع على ورق أبيض، وتلتزم بخط تحريري مهني وواضح، لكن في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت صحف صغيرة الحجم، تُطبع على ورق أصفر رخيص، سياستها التحريرية تقوم على نشر الشائعات، والتضخيم، والتهويل، والتطفل على حياة المشاهير من سياسيين، وفنانين، ورياضيين، عَبْر فبركة أخبار غير صحيحة عنهم، أو تتبُّع سَقَطاتهم، وذلك مقابل زيادة المبيعات للجماهير المتعطشة لكل ما هو مثير وغريب، ولا تملك عقلاً نقدياً، تناقش فيه وتحلل.

لاحقاً برزت أهمية ثانية للصحافة الصفراء سوى زيادة المبيعات للجماهير، وهي استخدامها للابتزاز، والتشهير والتحريض على التطرف السياسي والفكري.

ظهور الإعلام الأصفر في الثورة السورية

في الثورة السورية كُسِرَ احتكار النظام لوسائل الإعلام، عَبْر استعمال جمهور الثورة وأنصارها إعلاماً بديلاً هو وسائل التواصل الاجتماعي، ولأسباب أمنية كان التواصل بين السوريين أنفسهم، أو السوريين والخارج بأسماء حركية، وحسابات وهمية، أو عَبْر أسماء صفحات عامة لا يُعرَف مَنْ يقف خلفها، وبسبب عدم وجود أي خبرة إعلامية مهنية سابقة عند عموم السوريين، واهتمام الإعلام الإقليمي والدولي بأخبار سورية (ازدياد الطلب) كَثُرَت الصفحات والحسابات التي تنشر أخباراً وتحليلات ومواد إعلامية، منها ما هو معروف الخطّ والسياسة التحريرية، وكثير منها بدون ضوابط واضحة، أو مصادر موثوقة.

مع تعقُّد الموقف الداخلي في الثورة، وازدياد الصراعات البَيْنِيّة منذ ظهور تنظيم داعش، طَفَا على السطح مصطلح جديد بين الفصائل، وهو "الإعلام الرديف" الذي يكون موازياً للإعلام الرسمي، لكنه أكثر مرونة فيما يخص سياسة النشر، والتحرير، ويقول عَبْره الفصيل ما يتحرج من قوله على إعلامه الرسمي، وفي أحيان كثيرة أخذ دور الإعلام الأصفر.

الإعلام الرديف نما وتضخَّم بشكل كبير، حتى بات أشهر وأهم من الإعلام الرسمي لما ينشره من تسريبات، ومعلومات، ومحتوى مثير للجدل، غالباً يكون في سياق تصفية الحسابات مع الخصوم والمنافسين من فصائل وهيئات وأشخاص.

لكن ليست كل الصفحات الوهمية الصفراء تابعة لجهات عسكرية، بل نستطيع القول -بعد متابعة منشورات كثير منها لفترة زمنية جيدة- إن أسباب ظهورها تعود لمصادر مختلفة غير كونها إعلاماً رديفاً لفصائل عسكرية، فمنها ما هو مبادرات شخصية لأناس يخشون من ذكر آرائهم علناً فاحتجبوا خلف أسماء وهمية لتمريرها، أو لآخرين اتخذوها وسيلة لابتزاز المال من المهاجَمين، وأداة لتصفية الحسابات مع الخصوم، أو لجهات معادية تمارس من خلالها حرباً نفسية ضد الثورة وجمهورها.

مع كثرة الصفحات الوهمية الصفراء، والقنوات المجهولة، صار الجمهور أكثر خبرة في تصنيفها، وردها لتبعيتها الأساسية، وذلك بطرق مختلفة، تبدأ من الأشخاص المهاجَمين من هذه الصفحات، والممجَّدين عليها، والمسكوت عنهم، إلى طريقة صياغة المنشورات ومصطلحاتها، إلى الأفكار التي يتم بثها من المنشورات.

آثار الإعلام الأصفر المرصودة في الثورة السورية

لعبت هذه القنوات والصفحات مع زيادتها دوراً كبيراً في زيادة حالة العداء بين مختلف المكونات الثورية، خاصة الفصائل، بسبب جو الشحن السلبي، والتحريش المستمر بينها، وساهمت في ضرب السلم الأهلي عديد المرات بسبب ما تروجه من شائعات، وإسقاط لقدوات، وتفريغ أي إنجاز من مضمونه.

البعض يظن أن ظاهرة الإعلام الأصفر رد فعل على حالة الكبت، ومصادرة الرأي التي كان السوريون يعيشونها قبل الثورة، ولَرَبما لعب دوراً سلطوياً مهماً في ردع المفسدين عَبْر التشهير بهم، أو تصحيح بعض أخطاء المؤسسات عَبْر نقدها بشكل لاذع، لكن كثيرين يرون سلبياتها أكثر من إيجابياتها، فهي تكرس حالة الغوغائية المضادة للوعي، وتزيد من الاستقطاب والتشاحن المجتمعي، وتنشر خطاب الكراهية، وتروج للإقصائية، وتحرض على العنف، وتقتحم خصوصية الأفراد، وتشهر بهم بشكل مفترٍ كاذب في أحيان كثيرة، وتتلاعب بوعي الجمهور بخطاب عاطفي يداعب حالة المظلومية التي يعيشها الناس، وبادعاء الطهرانية النبيلة في مواجهة الأشرار...

ولا يقتصر دور الإعلام الأصفر على ما سبق، بل يتجاوزه ليكون أداة نفسية في ضرب قِيَم الجمهور، وثوابته، عَبْر نشر الشائعات، والتركيز المقصود المضخَّم على السلبيات، وكل ذلك دون حسيب أو رقيب...

ابتزاز المواقف والتشويش على المؤثرين

الخوف من التشهير وتشويه السمعة دفع كثيراً من العاملين والمهتمين بالشأن العامّ إما للانزواء، ما أفقد المجتمعَ نشاطَهم الإيجابي، أو لابتلاع آرائهم السياسية والفكرية ولو كانت صحيحة؛ خشية الهجوم عليهم بسببها، أو سقطوا في وَحْل ابتزاز المواقف من الإعلام الأصفر، ومنافقته اتّقاءً لشره عَبْر التصريح بما يريده، ويعاكس قناعاتهم الخاصة.

أما أولئك القلة الذين يقولون ما يعتقدون، ويعتقدون ما يقولون، فهم الهدف المفضَّل للإعلام الأصفر، طعناً، وافتراءً، وتشويهاً، وإسقاطاً، في اغتيال معنوي، غايته إما ابتزاز مواقف فكرية وسياسية تناسب أهواء المجاهيل، أو شيطنة تمهد لاغتيال مادي.

ما الحل لهذه المعضلة؟

الإعلام الأصفر مشكلة لا حل جذري لها، خاصة في عصر وسائل التواصل، لكن يمكن تخفيف كثير من أثرها السلبي عَبْر خلق مساحات تواصل افتراضية وواقعية تقوم على الحوار الجادّ المنطقي، بعيداً عن الأسبقيات والتعنُّت، وإيجاد هيئات إعلامية رصينة تمارس الإعلام بمهنية انطلاقاً من دوره التوعوي، والسلطوي، بشكل يشبع حاجة الجمهور للمعلومة، والتعبير عن آرائه دون خوف، ويبقى الأساس هو الوعي الذاتي لكل شخص فينا، حين يعرف أن ما يقوله، أو يسمعه، أو يساهم بنشره بأي وسيلة كانت، دون تحقُّق أو تفكُّر، له ضريبة كبيرة في حياته وبعد مماته، سواء على نفسه أم الآخرين.

على النُّخَب اليوم واجب ثقيل في تكريس ثقافة الشجاعة الأدبية قيمةً وسلوكاً، فكلما كان الإنسان أكثر ثقة بنفسه، وأشد التزاماً قِيَمياً، وصاحب بصمة عملية في الواقع، كان أكثر تجاهُلاً للإعلام الأصفر، ولامبالاة بما ينشره، بل ربما سخّر ما يُشَن عليه من حملات إسقاط وتشويه لصالحه، فهي رغم سلبيتها إلا أنها تبقى نوعاً من الدعاية والترويج الذي يحتاجه كل مؤثِّر، ولَكَمْ كان لسان العدو والحسود وسيلة لنشر الفضائل المطوية، والحسنات المنسية.

إن الإنسانَ المُصَنِّفَ لنفسه مؤثِّراً لا يكون كذلك وهو يداري أفكاره، ويكرس عمله لمسايرة هوى مجاهيل يتلاعبون به من وراء الشاشات، وفي العوالم الافتراضية، لا يستحق المؤثِّر أن يكون مؤثِّراً ما لم يملك من الثقة ورحابة الصدر ما يجعله يصبر على أذى الناس دون أن يخسر ذاته، أو ينافق المجاهيل بمواقفه وعمله.

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد