يوم واحد هزّ الدولة الروسية.. كيف انقلب السحر على الساحر؟
في 24 فبراير/ شباط 2022 بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي 24 يونيو/ حزيران 2023 حصل تمرد عسكري قاده صاحب شركة فاغنر العسكرية الخاصة يفغيني بريغوجين.
شركة فاغنر الروسية:
تأسست عام 2014 بهدف القتال في أوكرانيا بعد هروب رئيسها المقرب من الكرملين يانوكوفيتش وضم روسيا لشبه جزيرة القرم. ولكن هذه الشركة التي تحمل اسم فاغنر وهو موسيقي نازي، مارست نشاطات واسعة في إفريقيا وليبيا ومالي وسورية وأوكرانيا وفي مناطق أخرى وما يميزها هو دعمها للأنظمة الشمولية باستخدام أساليب وحشية كما فعلوا في سورية عندما قطعوا شاباً من دير الزور وعلقوه وأحرقوه تحت أنغام الموسيقى والرقص. ولم تحرك السلطات الروسية ساكناً لاستنكار هذه الجريمة المروعة. ونذكر كيف قضت القوات الأمريكية في دير الزور على عدة مئات من مرتزقة فاغنر دون أن تعترف الحكومة الروسية بهم بل أعلنت وزارة الخارجية أن 5 مواطنين روس قُتلوا. والحقيقة أن الحكومة الروسية كانت تنفي وجود مثل هذه الشركة وتتنصل من أفعالها إلى أن جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتكشف كل الأوراق ونعرف من خلالها أن فاغنر شركة مدعومة من القيادة الروسية وتتلقى السلاح وكل ما يلزمها من الجيش الروسي، خاصة وأن مؤسس فاغنر يوصف بطباخ الكرملين لأنه كان يمتلك مطعماً ويقدم الأطعمة الفاخرة لفلاديمير بوتين عندما كان نائباً لمحافظ مدينة سان بطرسبورغ.
مقابل مكاسب اقتصادية مثل النفط والغاز في سورية والذهب والألماس في السودان وإفريقيا الوسطى والمال في مالي ومصالح أخرى في ليبيا. وبالنتيجة فإن فاغنر هي الذراع الخفية الضاربة للقيادة الروسية فهي تحمي مصالحها الجيوسياسية وتكسب أرباحا.
لقد حارب مقاتلو فاغنر بشراسة في أوكرانيا واكتسبوا سمعة جيدة بين أغلب الروس الموالين للحرب في أوكرانيا. وعلى ما يبدو فإن بريغوجين كان يتلقى الدعم من قبل الكرملين ومن قبل أوساط مهمة في النخبة الروسية الحاكمة المدنية والعسكرية والأمنية وهذا ما شجعه ليتطاول على وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة ويوجه لهم الإهانات بالصوت والصورة، بينما كان بوتين صامتاً لغاية في نفس يعقوب.
وعندما قرر بريغوجين الانسحاب من مدينة باخموت التي أسهم مقاتلوه بشكل رئيسي في الاستيلاء عليها بعد أن تدمرت بشكل كامل، قال بأن الجيش الروسي قصف مواقع فاغنر وقتل العشرات فقرر حينها بريغوجين دخول روستوف والتوجه إلى موسكو.
وشاهد العالم كيف سيطر بريغوجين على مقر القيادة العسكرية الجنوبية الواقعة على الحدود مع أوكرانيا بدون قتال يُذكر وسيطر على المطارات العسكرية، وأسقط طائرة عسكرية قتل طاقمها وكذلك عدة مروحيات لأنها حاولت قصف مواقعه.
وبينما كان بريغوجين مدللاً لدى الكرملين ويصول ويجول في روسيا وخارجها، فقد انقلبت الأمور في يوم 24 يونيو/ حزيران حيث وجه له الرئيس بوتين تهمة الخيانة وضرورة محاسبته بأقسى العقوبات. وهكذا انقلب السحر على الساحر.
قراءة في أسباب وأبعاد تمرد بريغوجين:
تحدث العديد من المحللين السياسيين والعسكريين الروس والأجانب عن خطر تضخم شركة فاغنر وامتلاكها للأسلحة الثقيلة، الذي انعكس في الانتقادات الحادة للقيادة العسكرية ممثلة بشخصَي وزير الدفاع ورئيس الأركان، ثم تحول لاحقاً إلى انتقاد للقيادة السياسية مطالباً بمحاربة الفساد والبيروقراطية وترتيب البيت الداخلي وهدد بان روسيا مقبلة على ثورة تشبه ثورة 1917، ورفض تنفيذ قرار وزارة الدفاع الأخير الذي أيده بوتين والذي يقضي بضرورة تسجيل كل المقاتلين من الشركات الخاصة بما فيها فاغنر في وزارة الدفاع وهذا يعني إنهاء فاغنر عملياً. فرفض بريغوجين قرار بوتين وقال لن ننتسب إلى طريق "العار". ومع ذلك فإن بريغوجين أعلن لاحقاً بأنه لم يخطط لقلب السلطة في روسيا بل لإرسال رسالة بضرورة معاقبة المتخاذلين في قيادة الجيش وهي عبارة عن مسيرة تبحث عن العدالة. ولكنه تمرد على قرارات بوتين علناً بالرغم من أنه لم يطالب بتنحيته، باستثناء تصريح له بأن رئيسا ً جديداً لروسيا قادم.
وفي تصريح لبريغوجين مؤخراً بأنه رفض محاولات الجيش حل قوات فاغنر وقد يكون هذا أحد أسباب التمرد.
وهناك من يقول إنه راهن على دعم عسكري وشعبي وأمني ولم يرَ ذلك، مما دفعه للتراجع.
إن ما حدث يوم الرابع والعشرين من شهر يونيو بأن الحرب في أوكرانيا تركت أثراً بالغاً على الوضع السياسي الداخلي في روسيا وأبرزت صراعات بين النخب الحاكمة العسكرية والسياسية والأمنية والدليل هو كثرة التصريحات التي تنال أكبر المسؤولين وتتجاوز الخطوط الحمراء في الحياة الروسية. فمتى كان يستطيع كائن من كان انتقاد وإهانة قيادة الجيش الروسي ولا يتعرض للقضاء والعقاب؟ بينما هناك من قال كلمة أو كتب بوستاً قصيراً في الفيسبوك وتعرض للسجن لسنوات طويلة.
يقول المثل إذا فعلت خيراً يُرَد إليك في وقت غير متوقع، وإذا فعلت شراً فإنه أيضاً يرتد عليك.
لقد كانت أعمال فاغنر قذرة بكل المقاييس وها هي ترتد على من كان يدعمها. وفاغنر لن تختفي من الحياة الروسية بسهولة. وتوديع فاغنر في مدينة روستوف دليل على تعاطف شعبي معها وهناك الصامتون والمتذمرون مما يجري يُعتبرون قنبلة موقوتة.
نتائج تمرد بريغوجين:
كان هذا التمرد هزة حقيقية للدولة الروسية برمتها. فقد انقسم المجتمع الروسي بين مرحب بانتصار فاغنر على الجنرالات، وبين من طالب بقمع التمرد بسرعة لأنه خطر على النظام السياسي في روسيا. وقد تحدث الرئيس بوتين شخصياً عن خطر التمرد وإثارته للفتنة التي ستدمر الدولة الروسية. ويرى البعض بأن إرسال رمضان قاديروف رئيس الشيشان قواته إلى روستوف لمقاتلة فاغنر وكذلك إرسال مجموعة أخرى الى موسكو لمقابلة فاغنر قد تكون لعبت دوراً حاسماً في صد فاغنر. فالقوات الشيشانية هي الوحيدة في روسيا إلى جانب فاغنر يتقنون حرب الشوارع في المدن.
ولكن التمرد انتهى حاليا بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالتنسيق مع صديقه فلاديمير بوتين. ويبدو أن بريغوجين استنتج بأنه أمام حرب طاحنة ولم يكن متأكداً من وجود دعم حقيقي له، فقرر حماية مقاتليه وقبول اتفاقية مع بوتين ليغادر إلى بيلاروسيا ولا نعرف إلى متى؟ ولكن الأخبار تفيد بأن قوات فاغنر التي ترفض الانضمام إلى القوات المسلحة الروسية ستنسحب إلى بيلاروسيا حيث أقيمت معسكرات خصيصاً لهم على الأراضي البيلاروسية. ولا نعرف ما هو الدور المناط بهم لاحقاً.
ومن المؤكد أن شركة فاغنر بشكلها الحالي انتهت عملياً لأن صاحبها ومؤسسها بريغوجين فقد ثقة القيادة الروسية. ولا نعرف كيف سيكون وضع فاغنر في خارج روسيا؟
ولكن هذا التمرد لن يمر مرور الكرام بل سيكون له تبعاته في كافة المجالات لأن ما تحدث عنه بريغوجين ليس قضية شخصية بل قضايا تمس الدولة الروسية والمجتمع الروسي بمكوناته العسكرية والمدنية والسياسية. وإن غادر بريغوجين روسيا فسياتي بريغوجين آخر فالشركات الأمنية عددها يزيد على 800 شركة وكلهم مدربون على حمل السلاح.
وبدلاً من البحث عن معالجة أسباب التمرد وفيها الكثير من الحقيقة يخرج سيرغي لافروف بفكرة بأن تمرد فاغنر قد يكون وراءه استخبارات أجنبية. يعني رجعنا إلى نظرية المؤامرة الكونية التي يعرفها السوريون جيداً.
وهكذا شهدنا يوماً واحداً هز الدولة الروسية بكاملها فماذا لو استمر التمرد عدة أيام؟