تحوُّلات 2022 - 2023: أيُّ عالم جديد؟
كان عام 2022 استثنائياً، وأسفر عن المزيد من التخبط الإستراتيجي الذي يطبع الوضع العالمي منذ عدة سنوات، والذي يعرقل بزوغ عالم جديد. وليس من الضروري أن يتبلور مشهد إستراتيجي جديد في 2023 بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، وأزمة الطاقة والتضخم والنمو الضعيف وكل ذلك يجري بالتزامن مع انعكاسات التغير المناخي, وهكذا تتداخل الصدمات الإستراتيجية والاقتصادية على خلفية خلط أوراق وفوضى عارمة.
تجاوزت حرب أوكرانيا ، التي أعادت الحرب إلى قلب أوروبا، شهرها العاشر، وبان بوضوح أنها افتتحت مجابهة عالمية بين روسيا والغرب . وأمام استحالة التفاوض تزداد الخشية من تفاقُم الصراع مع تكاثر بؤر التوتر حول تايوان وبحر الصين؛ وتصعيد كوريا الشمالية؛ والتوتر بين صربيا وكوسوفو؛ ونزاعات الشرق الأوسط وشرق المتوسط.
سقط رهان فلاديمير بوتين على الحرب السريعة وبعد فشل الهجوم على كييف والاضطرار للاكتفاء بالاستيلاء على جزء من شرق أوكرانيا، أتت نجاحات الهجوم المضاد الأوكراني منذ أواخر أغسطس الماضي، لتزيد من حراجة الموقف. وما دام الدعم الأمريكي والأطلسي والأوروبي متوفراً، لا يبدو أن القصف الروسي المكثف للبنى التحتية الأوكرانية سيعدل في موازين القوى. وبعد الهدنة القسرية التي سيفرضها الجنرال "شتاء"، سيحاول كل طرف تحسين مواقعه لكي يحسن شروط الخروج من النزاع، خاصة أن الدعم الغربي لأوكرانيا لن يستمر مديداً، وأن الحسم الروسي مستبعد.
والأدهى أن هذه الحرب التقليدية حتى الآن (بالطبع إلى جانب حرب الطاقة وحرب الأمن الغذائي والحرب السيبرانية) تتم بين روسيا القوة النووية الكبرى وأوكرانيا المدعومة من حلف شمال الأطلسي المدجج بالأسلحة النووية، وحتى اللحظة خاضت روسيا هذه الحرب تحت غطاء ترسانتها الإستراتيجية ، واكتفت بالتلويح والتهويل بالنووي من أجل الحد من الدعم الغربي لكييف . لكن ينطوي هذا الوضع على مخاطر تتمثل بلجوء قوى مثل كوريا الشمالية وإيران وغيرها من القوى الوسطى لممارسة نفس النهج والحماس لتسريع الانتشار النووي في العالم. ومن هنا إذا لم يتوقف هذا النزاع قبل الصيف القادم يمكن أن ينحدر نحو الأسوأ إما عَبْر توسُّعه وتورُّط الناتو، أو الانزلاق نحو النووي التكتيكي أو ملامسة هاجس الحرب العالمية الثالثة .
انطلاقاً من حصاد الحرب وسيناريوهاتها وآفاقها، ومن الذي جرى حول تايوان، ومن الاصطفافات العالمية ، نستنتج إمكان بلورة قطبية ثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية ، وهما بشكل أو آخر الرابحتان في النزاع ، بينما تدمر أوكرانيا وتستنزف روسيا وتخسر أوروبا ويعاني العالم اقتصادياً في الوقت الذي سجل الإنفاق العسكري أرقاما قياسية مع واشنطن وبكين وكذلك مع طوكيو وبرلين اللتين انخرطتا من جديد في سباق التسلح .
وهذه الصورة أعلاه لا تعني أننا أمام انبثاق لعالم متعدد الأقطاب له قواعده وضوابطه، بل أمام مشهد عالمي تعددي أكثر انقساماً، وتخترقه النزاعات. وما يعمق الارتباك صعوبة الفرز بين شرق وغرب ، أو بين شمال وجنوب . إذ ليس من الأكيد أن تعزيز حلف شمال الأطلسي وتوسيعه في ردة فعل على الاندفاعة الروسية ، يعني استمرارية وتماسك الحلف الغربي نظراً لخشية أوروبا من دفع الثمن الباهظ مع عدم وصولها لمصاف الاستقلال الإستراتيجي والتبعية للقرار الأمريكي. وعلى الجبهة الأخرى، تبدو الصين حذرة في دعمها لروسيا ولا تزال تعول على وسائل القوة الناعمة بانتظار استكمال إعداد قواتها العسكرية .
ولهذا لا يعني أن الموقف الحيادي لدول كثيرة من إفريقيا والعالم العربي وآسيا وأمريكا اللاتينية ، لا يعني تبنياً تاماً للموقف الروسي بل ينم عن رغبة في تفادي الانعكاسات واللعب على النزاعات الدولية من أجل تعزيز مصالحها. وفي نفس السياق، لن تفلح موسكو وبكين في تعبئة جنوب الكرة الأرضية في موقف مُعادٍ للغرب الذي لا يزال حتى إشعار آخر في الموقع العسكري والتكنولوجي المتفوق . واللافت أن بلداً مثل الهند يجد نفسه بين المنزلتين خاصة أنه ينتمي إلى حلف "كواد" أحد الأحلاف التي تقودها واشنطن في مواجهة الصين.
ينحصر الصراع الكبير الآن على الأرض الأوكرانية ، وبعيداً عن المسرح الجغرافي لتلك المأساة، ترتسم في الأفق الإستراتيجي الدولي معالم المجابهة الأمريكية - الصينية بالرغم من تشابك اقتصادَي البلدين ، وفي " الغابة الكونية " أصبحت " العولمة السعيدة" وراءنا . وأمام الاحتدام الاقتصادي والإستراتيجي يتركز الاهتمام على وسائل المجابهة والمصالح العليا لهذا الطرف أو ذاك ، علماً أن مواجهة الأوبئة المهددة وعواقب التغيير المناخي، تتطلب تغيير الأولويات. لكن التاريخ يعلمنا أن منطق الصراع يعلو على ما عداه، وأننا نعيش في خضمّ مخاض ومرحلة انتقالية نحو دور حضاري جديد مجهول المعالم.