أقنعت الحرب في غزة روسيا بأنها كانت على حق منذ البداية

أقنعت الحرب في غزة روسيا بأنها كانت على حق منذ البداية

الصراع في الشرق الأوسط هو الأزمة المثالية بالنسبة إلى روسيا، والتي تجني منها الكثير من المنافع السياسية. حيث لم تؤدِّ المواجهة بين إسرائيل وحماس إلى تعزيز آمال الكرملين في تغيير المزاج السائد حول الحرب في أوكرانيا فحَسْبُ، بل أيضاً عززت اعتقادها بأن النظام الدولي المركزي الغربي يتهاوى.

لقد أدّى الغزو الشامل لأوكرانيا في عام 2022 إلى إنهاء معظم الخلافات الداخلية في الغرب عندما يتعلق الأمر بروسيا، مُوحّداً الدول المتواجدة على ضفتي الأطلسي، لكن الحرب بين إسرائيل وحماس شهدت عودة الانقسامات على مستوى الدول: في حين تصرّ الولايات المتحدة على أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، كانت هناك خلافات حادّة بين الدول الأوروبية حول الموقف الذي يجب أن يتخذه الاتحاد الأوروبي.

انقسامات اجتماعية

هناك أيضاً انقسامات اجتماعية، حيث تجري بانتظام مظاهرات من قِبل معارضين ومؤيدين لإسرائيل من واشنطن إلى ستوكهولم، وحتى الهيئات الحكومية ليست بمنأى عن هذه الانقسامات في الآراء، حيث أفادت تقارير إعلامية عن وجود استياء واسع النطاق بين المسؤولين الأمريكيين من الموقف المؤيد لإسرائيل للبيت الأبيض.

في ظل هذه الأحداث، تراجعت الحرب في أوكرانيا لتصبح من الأولويات المتدنية الأهمية؛ فقد صرّحت الولايات المتحدة بأنها ستقدم الدعم لإسرائيل وذكرت بعدها أوكرانيا، لكن إلى متى يمكن أن تظلّ واشنطن مشاركة بشكل كامل في صراعين كبيرين؟ لقد تبيّن أن آمال موسكو في أن الغرب سيتعب في النهاية من تقديم الدعم غير المحدود لكييف هي آمال محقّة الآن.

بالإضافة إلى ذلك، يقوّض الموقف المؤيد لإسرائيل من قِبل واشنطن شرعية أسباب الغرب الأشمل لدعم أوكرانيا في أعين الكثيرين من دول الجنوب العالمي، وتبدو الآن الحجة الأخلاقية ضد غزو روسيا لأوكرانيا أنها عبارة عن كلمات فارغة، خاصةً في دول الشرق الأوسط.

آلاف القتلى

صور أنقاض غزة، وتقارير عن آلاف الأطفال القتلى، وغضب المنظمات الإنسانية قد تركت أثراً عميقاً على الناس في العالم النامي، ويمكن للناس أن يجادلوا إلى ما لا نهاية حول أسباب الحرب في أوكرانيا، أو عملية إسرائيل في غزة، ولكن بالنسبة للكثيرين، الاستنتاج واضح: كانت الولايات المتحدة ناقدة لروسيا عندما قتلت مدنيين أبرياء في أوكرانيا، والآن هي صامتة عندما تقوم حليفتها إسرائيل بنفس الشيء في غزة.

إن الرؤية للعالم حيث لا أهمية للأخلاق والأيديولوجيات ــ والشيء الوحيد الذي يهم هو المصالح الخاصة ــ كانت لفترة طويلة هي الرؤية المهيمنة في الكرملين. وهذا المنطق يفرض أنه لن تكون هناك نتيجة أفضل بالنسبة لموسكو من استمرار الصراع في الشرق الأوسط، الذي يدمر إستراتيجية الغرب في التعامل مع روسيا، وليس على موسكو أن تحرك ساكناً: فمن غير المرجح أن تنتهي العملية البرية الإسرائيلية في غزة في أي وقت قريب، وعندما يحدث ذلك، ستكون القضايا المستعصية لا تزال قائمة.

صحيح أن التصعيد في غزة ليس بدون مخاطر بالنسبة لروسيا، وإذا تورطت القوات الموالية لإيران، فقد يصبح هذا مؤرقاً للكرملين. إن علاقات موسكو مع إيران تعني أنها تتجه نحو موقف مؤيد لطهران في الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين، لكن ذلك لا يعني أنها مستعدة لدعم إيران في حرب ضد إسرائيل. من شأن هذا التطور أن يلزم روسيا باختيار جانب لتقف بجانبه، وسيكون له تداعيات على تدخُّل روسيا في سورية.

اندلاع نزاع عسكري

ومع ذلك، يبدو أن اندلاع نزاع عسكري واسع النطاق في الشرق الأوسط غير مرجَّح في الوقت الحالي، فلقد بقيت إيران ووكلاؤها خارج الصراع في غزة حتى الآن، مما يعني أن احتمال تدخُّلهم في المستقبل أقل.

كذلك، يطرح الصراع بين إسرائيل وحماس بعض التحديات الداخلية للكرملين، فوفقاً لتصريحات المسؤولين، فإن الهجوم المعادي للسامية في داغستان في تشرين الأول/أكتوبر أحدث صدمة لدى القيادة الروسية.

في الوقت نفسه، يجب أن يكون تقليل هذه المخاطر أمراً بسيطاً، إذ يكفي التقليل من حِدّة الخطاب المناهض لإسرائيل مع الحفاظ على بعض النقد المعتدل لأفعال الدولة. بالفعل من المحتمل أن يكون الهجوم في داغستان قد أقنع الكرملين بأن البقاء على الهامش في الحرب بين إسرائيل وحماس أقل خطورة من لعب دور نَشِط.

أخيراً ساعدت الأحداث في الشرق الأوسط الكرملين على إقناع نفسه بأن سياسة روسيا الخارجية في السنوات الأخيرة كانت هي الصواب.

قدرية بوتين

يجب أن يكون الزعيم الكاريزمي قادراً على جعل مَن حوله يؤمنون بأنه محظوظ، وأنه يحقق النجاح بدون عناء. عموماً مهما كانت الصعوبات، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين يعتقد أن لكل أزمة هناك جانباً مشرقاً، وينقل هذه الثقة إلى مرؤوسيه، وأي نجاحات خاصةً إذا بدت أنها جاءت من العدم، تعزز كلاً مِن قدرية بوتين وإيمانه بعصمته، فحاشيته تردد قائلةً: كل شيء بيد الله، والله -بالطبع- مع روسيا.

هناك أيضاً حُجج أكثر عقلانية، فيبدو أن رهان موسكو على تفكُّك النظام الدولي الموجَّه نحو الغرب يُؤتي ثماره، فاليوم يوجد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ والتالي قد يكون بين تايوان والصين. وعلى هذا النحو يؤكد الصراع في الشرق الأوسط الفرضية القائلة بأنه لا يمكن عزل روسيا، خاصة أن الجنوب العالمي لم يَعُدْ يَثِقُ بالغرب، وهذا يعني فرصاً جديدةً لموسكو.

فاعل دولي

يدعم الصراع أيضاً أمل الكرملين في أن الصعوبات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا ستتلاشى مع الوقت من تلقاء نفسها. هذا النهج تم تجربته واختباره من قِبل روسيا مرات عديدة، وحتى لو لم يَسِرْ غزوها لأوكرانيا كما هو مخطَّط له، يقول المنطق، إنه سيتم حلّ كل شيء.

كل ما سبق مجتمِعاً يعني أن روسيا ستظلّ فاعلاً سلبياً في الحرب بين إسرائيل وحماس، لم يكن لموسكو دور في إشعال الأزمة، ولم تتمكن من حلّها حتى لو أرادت، كما لا تستطيع روسيا حتى لعب دور الوسيط؛ لأن إسرائيل قَلِقة من قربها من طهران. الخيار الوحيد المتبقي هو مراقبة الأحداث من بعيد وتكرار العبارات الفارغة حول حلّ الدولتين. في الوقت نفسه، تعمل المنافع التي يجنيها الكرملين من الأحداث في الشرق الأوسط فقط على إقناع النخبة الروسية بأنهم اختاروا الطريق الصحيح.

المصدر: كارنيغي
بقلم: نيكيتا سماجين
ترجمة: عبدالحميد فحام

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد