مصرف سورية المركزي: مؤسسة عريقة تمتلك القدرة على تصحيح مسارها

مصرف سورية المركزي: مؤسسة عريقة تمتلك القدرة على تصحيح مسارها

عمل الدكتور عزت الطرابلسي أيام استقلال سورية عن فرنسا على المشاركة في تأسيس عدد من مؤسسات الاقتصاد السوري، حيث كان مديراً للجمارك ونائباً لوزير المالية ثم مؤسِّساً وحاكماً لمصرف سورية المركزي، ليتسلم مهام وزارية أكبر نظراً لكفاءته التي أبداها في تهيئة الاقتصاد السوري وإرساء أسسه الحديثة، وتنظيم المؤسسات العامة، في مرحلة ما بعد استقلال سورية.

لقد شُيّد مبنى مصرف سورية المركزي الحالي على أنقاض ثكنة عسكرية فرنسية كانت في ساحة السبع بحرات، وهي إشارة مهمة للتحول من حقبة إلى أخرى، لقد مثّل البناء العملاق رمزاً سورياً حديثاً، وبشكله المميز كان يدل على أن سورية ستمتلك مؤسسة ضخمة من حيث الأعمال تتحمل تركة ثقيلة، وتضطلع بدور مهم.

لم يكن المصرف المركزي مؤسسة اقتصادية وحسب، بل كان مؤسسة وطنية عارضت نقل الذهب السوري إلى مصر أيام الجمهورية المتحدة؛ لأنها رأت أن هذا يضر بالاقتصاد الوطني، كما دافعت عن الصناعة السورية، واستقلت عن الحكومة، ولم يكن يتدخل بها أحد بما في ذلك رئيس الجمهورية، مما جعلها مؤسسة وطنية ومرجعية اقتصادية حقيقية؛ ساهمت في ضبط سعر صرف الليرة وقادت الاقتصاد السوري إلى بر الأمان، مما جعل الأطراف المختلفة تشيد بها، كما كانت رديفاً للجامعات في تدريب الطلاب وتأهيلهم للقطاع المصرفي، ولطالما شهد المركزي حوارات راقية بين موظفيه ومتدربيه.

وفي عهد تأسيس المركزي السوري تم افتتاح 7 مصارف أجنبية، و5 مصارف سورية، و9 مصارف عربية مما جعل العدد الكلي 21 مصرفاً أي أكثر من عدد المصارف العاملة في سورية اليوم، كما تم تأسيس المصارف الحكومية التي تعمل حالياً وتم وضع أسسها لتنافس المصارف الخاصة وتفوقت عليها في بعض الأحيان، ساهم القطاع المصرفي عموماً بتمويل إنشاء البنى التحتية الرئيسية في سورية، وتطوير المؤسسات العامة عن طريق إقراضها، وتم تعيين مفوضين لمتابعة أعمال المصارف، وفعلياً نستطيع القول إن القطاع المصرفي بقيادة المركزي السوري شارك في بناء مؤسسات سورية، وبنيتها التحتية.

بعد وصول الأسد الأب إلى السلطة، بدأت الليرة السورية بالانهيار، نتيجة لقبضته الأمنية على كل شيء، ثم تم إفراغ المصرف المركزي لصالح صفقة مع رفعت الأسد من أجل الخروج من البلاد، حيث قام الأخير بإفراغ خزينة المركزي حرفياً من الذهب والعملات الأجنبية ونقل كل شيء معه للخارج، ونتيجة لتورط النظام السوري مع إيران ودعمه لنظامها، وتدخله في ملفات دولية وإقليمية معقدة، واتباعه لتصريحات مرتفعة اللهجة دون أي أفعال؛ تورط النظام المصرفي السوري بالانغلاق على نفسه، وأصبح الاقتصاد السوري يسير إلى الخلف، وتم شلّ حركة المصرف المركزي ودوره الذي اقتصر على تسعير الدولار مقابل الليرة بسعر ثابت وبقوة المخابرات، ولكن المصرف المركزي نجح في إعادة تكوين احتياطات نقدية بالقطع الأجنبي ساهمت في تأمين غذاء السوريين واحتياجاتهم مما يحسب له ولموظفيه.

في مطلع الألفية الجديدة أصبحت المؤسسة السورية العظيمة، وحاملة الاقتصاد الوطني؛ مسرحاً للتدخلات من قبل جهات مختلفة أبرزها وزارة المالية التي تغوّلت على المصرف، كما عمدت بعض الأفرع الأمنية لتعيين موظفين أقل كفاءة في المركزي السوري، إلا أن إدارة المصرف نجحت مرة أخرى بتهميش التدخلات عن طريق استخدام ورقة التعقيد الموجودة في السياسة النقدية، فأبعدت جلّ مَن أراد أن يتدخل ليسيطر ويهمش من غير أن يعرف تفاصيل السياسة النقدية وتشابكاتها، رغم ذلك استمر الضغط على المركزي لإعطاء أولويات أكبر للمؤسسات الحكومية والتجار المقربين من بشار الأسد والمحسوبين عليه.

مع بداية الثورة السورية؛ زجّ المركزي السوري نفسه في مهمة جديدة لا تختلف عن مهمة أي فرع أمن، حيث وضع أهدافه على أساس تأمين القطع الأجنبي لتمويل الحرب متخلياً عن ضبط الأسعار ومكافحة التضخم وتشجيع النشاط الاقتصادي، فورط نفسه وورط القطاع المصرفي معه في دماء السوريين، وفي 2019 عندما تم تشريع قانون قيصر للعقوبات ضد النظام السوري، مُنح المصرف المركزي فترة ستة أشهر ليتم تقييم وضعه فيما إذا كان يعمل على غسيل أموال لصالح النظام السوري أم لا. في الحقيقة كان المشرّع الأمريكي يعرف أن المصرف المركزي هو غسالة الأموال الخاصة بالنظام، والتي تدخل من خلالها أموال بيع الآثار والمخدرات وتمويل السلع المستخدمة في قمع المتظاهرين، ولكن المشرع أعطى المركزي السوري ما يعرف بالفرصة الأخيرة لتصحيح الوضع والانخراط في دور محايد ليس له علاقة بتمويل الحرب ولا بتمويل أي عمليات عسكرية أو أمنية، بحيث يختص بضبط سعر الليرة السورية، والتركيز على تأمين مستلزمات السوريين؛ إلا أنه لم يُبدِ أي بادرة إيجابية تجاه الأمر، كما خسر المركزي السوري علاقاته المميزة مع الدول الأوروبية التي تم بناؤها نتيجة جهد متراكم لعشرات السنوات.

استمر المصرف المركزي السوري بالاجتماع بالمصارف وشركات الصرافة والحوالات والتجار لغرض واحد فقط، وهو تأمين القطع الأجنبي، لا يذكر كثير ممن أعرفهم في القطاع المصرفي أن مندوبي المركزي أو إدارته كانوا يتحدثون عن أولويات أخرى، فالأسعار المرتفعة هي بسبب جشع التجار وليس فشله في ضبط التضخم، وضعف الاحتياطي النقدي المستنزف كلياً هو بسبب العقوبات وليس بسبب تمويل الحرب وشراء طائرات وقطع غيار ووقود وصفقات سلاح، كما أن البطالة هي بسبب عدم وطنية التجار في مساندة البلد والتخلي عن أعمالهم، وليس بسبب فشله في تأمين القطع الأجنبي والقروض وضمان استقرار سعر الصرف من أجل أن يخططوا ويستوردوا ويصدروا. لقد تبنى المصرف المركزي السوري رواية مرعبة له قبل أي أحد آخر، رواية جعلته أسيراً لها رغم أنها من صناعته، رواية قيدته حقيقة عن فعل ما هو ممكن.

لقد أصرّ المركزي السوري في السنوات الاثنتَيْ عشرة السابقة أن يبقى أداة تمويل بيد النظام السوري، متخلياً عن دوره التاريخي الوطني والريادي، ضارباً بمصالح السوريين عرض الحائط. يتضرر السوري من هذا الدور قبل كل شيء، السوري الحاضر، والسوري المستقبل، وكذلك السوري الماضي؛ الذي بنى وأسس لصرح وطني يدافع عن قضايا البلد ويخدم أبناءه. شخصياً أعرف بعض موظفي المصرف المركزي دون أن أمتلك أي تواصل معهم، وأعرف أن سياسة المصرف المركزي تلك تجعلهم متضررين مثلهم مثل أي سوري آخر، ولكنهم لا يملكون من الأمر شيئاً، ولكن ربما قليلاً من المحاولات لاتخاذ محور أقل تطرفاً سيكون خطوة من مجموعة خطوات عديدة، فمبدأ الحياد في العمل والتكنوقراطية في السياسة النقدية، ومبدأ المهنية والقضايا الفنية المعقدة التي ينخرط فيها موظفو المركزي السوري تشكل لهم منفذاً نحو اتخاذ خطوات أكثر خدمةً وتمثيلاً لمصالح جميع السوريين، تجاراً وصناعيين، مؤسسات خاصة وحكومية، مواطنين وأُسَراً، مستوردين ومصدرين... فهل سنرى أيّ خطوة نحو الوطن ولو في تغيير وجهات النظر أو في الخطاب؟

 

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد