مستقبل العلاقة مع "تحرير الشام" في ظل خطر إعادة تدوير النظام السوري

مستقبل العلاقة مع "تحرير الشام" في ظل خطر إعادة تدوير النظام السوري

دائماً نشيد بالغربيين لامتلاكهم مرونة التصالح بعد كل نزاع بينهم مهما كبر، بناء على غايات مشتركة تجمعهم، وأنهم يفكرون بعقلية الحكمة والاستفادة، لا بالعاطفة والمشاعر.

إن المسلمين أَوْلَى منهم بهذه العقلية التي ضبطها الدين لهم بالحفاظ على ضروراتٍ خمس هي الدين، والروح، والعرض، والعقل، والمال، مع تأكيد رب العالمين على بشرية الإنسان في قرآنه عبر ذكر أن المؤمنين -الإيمان مرتبة أعلى من الإسلام- قد يتنازعون ويقتتلون ويسفكون دماءهم تأولاً، بل وحتى بغياً من بعضهم، كما حصل مع الصحابة خير البشر بعد المرسلين.

على الصعيد المقابل نجد أن عدوّنا يستطيع أن يحشد كل حليف له تحت أي دعوى كانت (دينية/ قومية/ مصلحية/ ثأرية)، ورغم عمق الاختلافات بين هؤلاء الشركاء إلا أنهم يتفقون جميعاً على ضرورة إفناء الغالبية السورية السنية المتحررة وتهجيرها، وبقاء نظام الأسد الطائفي الذي يخدم مصالحهم، ويزيد الخطر بارتفاع وتيرة إعادة تدويره من قِبل دول كانت لأمد قريب تدعي وقوفها لجانب ثورة السوريين.

ضع ببالك عزيزي القارئ هذا الاعتبار، وتذكر أنه حين كانت دول شرقية وغربية تدعمنا، على الأقل إعلامياً، وإنسانياً، وسياسياً، لم ينفعنا ذلك في مواجهة سكاكين الطائفيين، وبراميل الحاقدين، وكيماوي المجرمين، فكيف الحال بنا اليوم، وقد صرح الجميع أنهم يريدون إعادة تدوير النظام، هل تتخيل حجم ما سنواجهه من إجرام وخذلان؟!.

للاعتبارات السابقة نجد لزاماً ألا نواجه تهديد الحاضر، وخطر المستقبل، بعقلية واعتبارات الماضي، مع ضرورة أن ننتبه أن جزءاً كبيراً من متاعبنا الحالية يحتاج حله لتصحيح بعض أخطاء الماضي.

لكن أن نغفل عن كل ما يحيط بنا من خطر، وندفع باتجاه معارك صفرية جديدة، أو بقاء حالة التفرق والتشرذم لاعتبارات مهما كانت منطقية، إلا أنها تبقى أقل أهمية من خطر استئصالنا سياسياً، ومجتمعياً، بعد أن تم حصرنا بآخِر شبر من سورية، وذلك سيكون حتماً لصالح مشاريع معادية.

اعتبار يُتوقف عنده

كثيرون لديهم ماضٍ مؤلم مع هيئة تحرير الشام، والبعض حمل السلاح لرد عاديتها في وقت ما اقتناعاً منه بدوافع شرعية ووطنية يراها صحيحة، لكن ذلك لا يخرج أحداً من دائرة الإسلام، ولا يجب أن يعصف بنا هوى الانتقام والثأر بعيداً عن واجب الوقت، ألا وهو رصّ الصفوف عسكرياً ومدنياً لمواجهة خطر الاستئصال السياسي والمجتمعي، شِبه المجمع عليه دولياً وإقليمياً.

مَن سوّق مشروع الهيئة؟

لقي مشروع الهيئة بقيادة الجولاني تسويقاً كبيراً امتد لسنوات في شمال حلب، هذا التسويق كان عرَّابُوه من الناحية العسكرية فصائل الجيش الوطني، ومن الناحية السياسية الائتلاف، ومن الناحية الخدمية حكومة عبد الرحمن مصطفى، والمجالس المحلية، وسنناقش دور كل جهة بتسويق مشروع الهيئة:

- الفصائل العسكرية بفضل نزاعها الدائم، وسوء سمعة غالبها، وفشلها العسكري، والأمني، وتورط كثير منها بتهريب المخدرات مع النظام، واغتيال الناشطين، والانتهاكات المتوحشة ضد المدنيين، وعجزها عن الإتيان بأي مشروع كان فيما بينها للتنسيق، أو الإدارة، أظهرت الهيئة بمقابلها من باب المقارنة أنها فصيل جاد عسكرياً، منظم، ومنضبط، استطاع أن يحسن من سمعته على مدار سنوات في التعامل مع الحاضنة المدنية، بل وظهرت الهيئة أفضل من الجيش الوطني قياساً بفشله الذريع في كل شيء، وأنها رقم صعب للداخل والخارج، وكتلة عسكرية تملك مقومات تجعلها بالحد الأدنى تؤثر أو تشاكس بأي قرار خارجي مهما كان كبيراً، على عكس الجيش الوطني صاحب السمع والطاعة بغالبه لأي إملاء خارجي، ليس عن قلة وطنية في منتسبيه، بقدر ما هو هشاشة في بنيته الداخلية التي لا تملك أي مقوم للمشاكسة أو التأثير، أو حتى التصدي للمشاريع المنافسة (الهيئة مثالاً)...

- سياسياً استطاع الائتلاف عبر موته السريري الأزلي، وانفصال أعضائه عن واقع أهلهم، وكوارثه السياسية المتراكمة، أن يجعل الدول تدير له ظهرها تباعاً، خاصة بعد الاستئثار التركي الواضح بقراره، ما أدى لانفضاض الداخل عنه نافضاً يده من أي بصيص أمل فيه، وبات الداخل يبحث عن أي حائط يسند ظهره له، حتى ولو كان متداعياً، وقد استطاعت الهيئة أن تقتنص الفرصة لتؤكد فشل منافسها السياسي، الذي بات رجلاً مريضاً، ينتظر الجميع إعلان وفاته لوراثته.

- خدمياً نجح عبد الرحمن مصطفى المفروض من تركيا عَبْر الائتلاف في أن يسوق حكومة الإنقاذ النابعة عن الهيئة بأحسن ما يمكن، وساعده في ذلك المجالس المحلية الكرتونية المؤسَّسَة والمعينة تركيّاً، حيث أدت هزالة الحكومة المؤقتة، وسلطة المترجمين، والمنسقين الأتراك عليها وعلى المجالس التركية، لإظهار حكومة الإنقاذ أكثر وطنية، وأعلى مهنية، خاصة في استحقاق مهم كاستحقاق زلزال شباط الماضي، وبات الحديث عن نموذج إدلب وريف حلب الغربي، وعقد المقارنات بينه وبين نموذج شمال حلب، حديث سكان الشمال، ما دفع كثيراً من رؤوس الأموال، والمنظمات، والأشخاص لاختيار ريف حلب الغربي وإدلب مستقراً، رغم أن تلك المنطقة عرضة للاستهداف الدائم من النظام وحلفائه، ولخطر الاجتياح العسكري المستمر، مقارنة بريف حلب الأكثر استقراراً منذ 2017 وحتى اليوم، والذي لم يترجم استقراره إلا لأسوأ نموذج حوكمي وإداري عرفته سورية من أيام العصر البرونزي!

كل ما سبق يعترف به دعاة الصراع الصفري مع الهيئة، لكنهم بنفس الوقت يصرون على جحد دورهم في صنعه، ويستمرون بعزف ذات الأسطوانة المشروخة أن الهيئة مشروع سواد قاتم سيقضي على أخضرهم اليانع!

وإننا نستغرب اهتمامهم البالغ بالتصنيف الخارجي -مع إقرارنا بخطورته- في ظل تجاهلهم التام للتصنيف الداخلي لهم من أهلهم!

علماً أن الجميع يعلم أن التصنيف لعبة ابتزاز سياسي تتحكم بها التوازنات، والقوة على الأرض، وشبكة الحلفاء والمصالح الداخلية والخارجية، ولم يمنع التصنيف حزب الله عن احتلال لبنان والإفساد فيه، ولم يقطع سيل دعم أمريكا -راعية محاربة الإرهاب- عن حزب PKK ولم يثنِ طالبان عن مشروعها في أفغانستان الذي انتزع الاعتراف به بسلاحه من أمريكا نفسها.

الأصل أن نحافظ على نقاء الأخضر، ثم نعمل على صبغ باقي الألوان به، لكننا مع الأسف أسأنا لأخضرنا كثيراً، وزدنا قتامة الأسود، بل ومارس بعض المتسترين بالأخضر من أعدائه، لعبة ابتزاز مشينة ضد أهلهم في شمال حلب، فإما أن يرضوا بهذا الجحيم من الفساد أو الفوضى بذريعة (نحن الأخضر الناضر) أو سنكون عوناً للخارج في حرق الشمال السوري المحرر عبر إثبات وتعميم صفة السواد الحالك على كل من يرفض فشلنا!

تساؤُلات محقة

هل يعني ما سبق أن الهيئة وحكومة إنقاذها لا أخطاء لديهم؟!

الجواب طبعا لا، للهيئة والإنقاذ أخطاء كثيرة، وربما كارثية في بعضها، لكن قابلية إصلاح الخطأ، والتعلم عندهما أكثر من باقي النماذج الموجودة، وقد ساعد فشل الجيش الوطني والائتلاف، ومجالس تركيا المحلية الذريع، نموذجَي الهيئة والإنقاذ أن يظهرا بشكل أفضل مما هما عليه واقعاً.

هل الحل في أن نصبح هيئة وحكومة إنقاذ؟

ليس الحل الذي ندعو له أن نؤطر أنفسنا داخل نماذج الهيئة والإنقاذ، لكن الحل الحقيقي يبدأ باعتبار نموذجَي الهيئة والإنقاذ نموذجين صالحين للقياس، والدراسة، والتنسيق معهما، في صيغ تكاملية عسكرية، ومدنية، يشمل منطقتَيْ شمال غربي سورية، ويجعلهما نموذجاً واحداً عسكرياً، وحوكمياً، وممكن لذلك أن يتم عبر تفعيل طرح المجلس العسكري الموحد الذي يضم الفصائل العسكرية الجادة التي من ضمنها هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، وإنشاء جسم حوكمي مركزي للمنطقة كاملة، بمرجعية سياسية داخلية، تشارك في صنعها القوى والشخصيات السياسية المؤثرة في الشمال السوري.

لماذا هذا الطرح الآن والمختلف عن طروحات مخاصمة الهيئة التي هي ليست ببعيدة؟

هذا الطرح أتى بعد استنفاد الجهد والوقت في انتظار الجيش الوطني، والحكومة المؤقتة، والائتلاف، لمدة ست سنوات أن يقدموا أي شيء مفيد، لكن الانتظار كان عبثاً، والصبر أصبح بلا جدوى، خاصة مع استحكام حلقات المكر بما تبقى من ثورة سورية، ومن تبقى من أحرارها، بعد جهود إعادة التدوير الحثيثة لنظام الأسد من الدول والحكومات، التي إما كانت من البداية تدعمه، أو انتظرت طرحنا الجاد طويلاً بلا نتيجة، مع التأكيد أن الخصومة مع الهيئة ما كانت يوماً في مجملها -بعيداً عن العواطف الشخصية والتحيزات- صراعاً صفرياً، كحال خصومتنا مع النظام.

كيف سنبني جسور الثقة بعد كل الماضي الأليم؟

أثبتت حملة 2019 العسكرية للهيئة قبل غيرها أن فصيلاً وحده مهما بلغ من إمكانات سيعجز عن حمل التبعات العسكرية والسياسية والخدمية للمحرر كله أو بعضه، في مواجهة نظام الأسد، وروسيا، وإيران، لذلك بدأ الحديث الداخلي وقتها ضمن الهيئة نفسها بضرورة التغيير بعد ضغط من حكماء أحسنوا قراءة المشهد، واستشفوا المستقبل.

كثير من سكان شمال حلب لا يزال يملك نظرة سوداوية عن الهيئة، تمنعه من مجرد التفكير في أي تقارب معها لبدء عمل مشترك ضد العدو المشترك، ينعكس إيجاباً على الصالح العام، لذلك تقع المسؤولية أولاً على عاتق الهيئة وحكومة الإنقاذ في مد جسور الثقة مع عموم الناس في إدلب وحلب، ولا يعفي ذلك الطرف المقابل من ضرورة كسر الحواجز النفسية، والخوف من المزايدات، للدخول مع الهيئة والإنقاذ في حوار بنّاء وشجاع، يثمر صيغة اتفاق وتنسيق تشمل كل شمال غرب سورية، وضامن نجاح ذلك هو صدق نية الطرفين، والتبكير بهذه الخطوات ما استطعنا، وعدم إضاعة ما تبقى من جهد وموارد ووقت في دخول صراعات صفرية لن تفيد إلا العدو، وفي أحسن أحوالها ستنتج خاسراً متربصاً، ورابحاً مُستنزَفاً مترقباً، والفاتورة ستحسم من دمائنا وأرضنا.

هذا الطرح مَن يمثل؟

هذا الطرح لا يمثل كاتبه فقط، بل يمثل شريحة باتت تزداد وتتسع في شمال حلب، يمنعها عن التصريح به سطوة المفسدين المستفيدين من حالة النزاع الصفري، والفوضى المدمرة، أو الخوف من مزايدات المزايدين، وحملات الإسقاط والتشويه من المفترين الحاقدين، الذين لا يرون لأنفسهم وجوداً أو سلطة في ظل مشروع ثوري جادّ، تكون القيادة فيه لمن أثبت كفاءته، ولمن يطور مهاراته، وتتواءم أساليبه مع المتغيرات السريعة لخدمة القضية الثابتة، لذلك يُبدي هؤلاء المنتفعون من حالة الفوضى والفساد ممانعة كبيرة للإصلاح والتغيير، لكن إن بقي تردد العقلاء والصادقين مستمراً فالوقت ليس بصالحنا، خاصة أن عبث المراهقين من قيادات التكسب باسم الثورة على حساب معاناة أبنائها، ومن يلوذ بهم من أبواق، ومنتفعين طوال سنوات لم يقدم ما يُسمن أو يُغني من جوع، بل بالعكس كان السبب الأبرز في كل نكبة ونكسة.

حتى لا نخسر الهُوِيَّة

اليوم الغالبية السُّنية في سورية، والتي هي رافعتها الحضارية تحت تهديد وجوديّ، واستمرار انقسام وتمزُّق الصف السني بمكوناته المختلفة سيخدم حتماً مشروع التغيير الديمغرافي الذي ترعاه إيران، والمشروع الانفصالي الذي ترعاه أمريكا، وفي مواجهة هذين المشروعين المهدِّديْنِ لهُوِيَّة سورية، وعُمقها الحضاري، يجب أن نُوجد صيغة تنسيق وتوافُق بين المكوِّنات الثورية، لنضمن مستقبل سورية الجديدة المتوازنة التي لا يحكمها الأقلويون الطائفيون، وتحقق قِيَم الكرامة والعدالة والحرية لكل أبنائها.

بقلم: معتز ناصر/ كاتب سوري

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد