لماذا موّلت المخابرات الأمريكية نظرية للتنمية الاقتصادية؟
لماذا موّلت المخابرات الأمريكية نظرية للتنمية الاقتصادية؟.. وهل من مخابرات تمول نظرية تنموية في الشرق الأوسط بدل تمويل حملات القمع؟
انتهت الحرب العالمية الثانية، وخرجت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية متفوقة في مجالات عدة. وضع الجنرال جورج مارشال العسكري في الجيش الأمريكي ووزير الخارجية الأمريكية وقتها خطته الشهيرة التي عرفت باسم مشروع مارشال. تهدف الخطة إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب في أوروبا بقيمة خيالية وقتها بلغت حوالَيْ 20 مليار دولار أمريكي، وهو مبلغ كافٍ لتأهيل أوروبا وإعادة إعمار المصانع والبنى التحتية بأسعار ذلك الوقت.
مشروع مارشال هذا كان مشروعاً إستراتيجياً، يهدف إلى ربط الاقتصادات الأوروبية بالولايات المتحدة لعقود طويلة، ووقع الرئيس هاري ترومان على المشروع مانحاً أوروبا الغربية مبالغ مالية خيالية كهبات لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، في ظل رفض الدول الأوربية الشرقية بقبول العرض، الذي لم تعتقد أنه سيكون مجانياً رغم أنها هبات وقروض بلا فوائد.
كان رد الزعيم السوفياتي ستالين عنيفاً على المشروع، ومنع أي دولة شيوعية من قبول العرض، ووجه الاقتصاديين الشيوعيين بالتوعية لمخاطر الرأسمالية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الولايات المتحدة كان لديها تحضير مسبق لكل شيء، وأبعد بكثير من نظر ستالين، ورفضه للأفكار والمبادئ.
تم تخصيص 5% من أموال إعادة إعمار أوروبا لصالح المخابرات الأمريكية للإشراف على المشروع، وكانت واحدة من النظريات التي دفعتها المخابرات الأمريكية للواجهة؛ هي نظرية المراحل الخمسة للمفكر الاقتصادي والت روستو. بناءً على طلب من المخابرات الأمريكية وضع المؤرخ الاقتصادي والت روستو نظرية تجعل من الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً يُحتذى في مجال التنمية، كوّن خلاله تصوراً كاملاً عن المراحل التي مرت بها أمريكا للنهوض الاقتصادي، وقسم هذه المراحل إلى خمس مراحل هي:
مرحلة المجتمع التقليدي، مرحلة التهيؤ للانطلاق، مرحلة الانطلاق، مرحلة النضج، مرحلة الاستهلاك. بموجب هذه النظرية أصبح المجتمع الاستهلاكي هو المجتمع الصورة، أو المجتمع المثالي لدى العالم، أي أنه ذلك المجتمع القادر على الحصول على مختلف السلع والخدمات ويبدأ الاستهلاك بكميات كبيرة، ويزداد سكان المدن والعاملين في المناصب الإدارية. في الوقت ذاته كانت الولايات المتحدة هي ماكينة الإنتاج لكل شيء، فالمصانع الأوربية متوقفة، واليابان دمرتها الحرب، ولا يمكن للصين والهند أن تمدا رأسيهما إلا بعد عقود طويلة نتيجة لمشاكل ديموغرافية بحتة.
لقد جعلت النظرية الاقتصادية للتنمية الموضوعة من قِبل روستو -والتي أصبحت مدرسة اقتصادية خلفت آلاف الأبحاث والتجارب- الدول تطمح للوصول إلى مستوى استهلاكي مرتفع لتصل إلى سلم التطور، كما جعلت أموال إعادة الإعمار الولايات المتحدة الأمريكية ذات يد طُولى في الجهاز الإنتاجي الأوروبي، وفي الوقت نفسه كان الجهاز الإنتاجي الأمريكي يتفوق بعشرات السنوات على أي جهاز إنتاجي آخر.
ورغم الانتقادات الكثيرة التي وُجِّهت لنظرية المراحل الخمس في التنمية، لا تزال هذه النظرية إحدى أهم النظريات الاقتصادية ليس لكونها دعمت من المخابرات الأمريكية، ولكن لكون نظريات أخرى مقابلة لها سقطت بفعل التجربة، فمراحل تطوُّر المجتمع عند الشيوعيين كانت تمر كذلك بعدة مراحل من العبودية للإقطاع فالبرجوازية ثم الاشتراكية التي ستتوج بشيوعية تمثل غاية المجتمع وهدفه، لم تَدُمْ هذه النظرية طويلاً، فالمجتمع الشيوعي المثالي برأي الماركسيين وبقية منظري الشيوعية تعرض لنكسة كبيرة، في مقابل تفوُّق المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي، مما أثبت تفوُّق نظرية روستو على أفكار منظري المدرسة الشيوعية.
لقد عززت الولايات المتحدة طريقها بالعلم، والتخطيط، وأرفقت مشاريعها المالية بنظريات اقتصادية متطورة ومرنة حققت نتائج باهرة، ولعل ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط من صرف للأموال وإنفاق ضخم على مشاريع متنوعة يلفت نظرنا إلى أن هذه المشاريع لا يمكن أن تتم بدون نظرية اقتصادية متكاملة، تربط كل هذا الإنفاق بأهداف واقعية.