عن ابتزاز العرب للسوريين بالتطبيع مع الأسد
لم تتوقف محاولات تغيير الذهنية السورية لحظة واحدة، منذ أن رفض السوريون الاعتراف بحدود "سايكس بيكو"، وهي خطوط الزلازل الاستعمارية التي كان ولا يزال العالم يريد أن يفرض عليهم قسراً اعتمادها كمدخل لهُويَّة وطنية أرادها هو أن تكون هكذا، بالقوة، لا بفعل فهم المجتمعات وطبيعتها وتوجُّهاتها وخدمة لمصالحه الإستراتيجية المختلفة.
وبعد أن قَبِلَ السوريون على مَضَض أن يكتفوا بهذا القدر من الخرائط، مُبقِين على نهجيْنِ؛ رسمي متوافق مع ما يريده الأقوياء من حولهم، وآخر وجداني وقِيَمي تمسكوا به في ضمائرهم وطموحاتهم وحتى إنتاجهم الفكري، عاد الغرب ليفرض عليهم مجدداً خارطة جديدة مثّلتها الحالة الإسرائيلية التي لم تنفك تؤثر في ما حولها، عرقياً ودينياً - طائفياً. ليتواصل صراع تم استثماره من كل حَدَب وصَوْب وبكافة السبل، وكان السوريون وحدهم مَن يدفع الثمن دوماً، عَبْر ابتزازهم كل مرة بشأن ما هم مؤمنون به.
أنتج ذلك نمطاً من الحياة والعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، قائماً على القسر والقهرية لا من أجل الخرائط هذه المرة، بل حول الحياة نفسها، شكلها ومستواها، والمدى المسموح للسوريين بأن يتحركوا ضمن نطاقه، وذاك المحظور عليهم.
في الاقتصاد والثقافة والعلاقات بالجوار، كما في التعليم والتنمية والصناعة، في المجتمع السوري ومركّباته وشرائحه، مثلما هي الحال في عالم الفكر والتحليل والنقد واجتراح الحلول المستقبلية لأي مشكلة تظهر، وهكذا تم وضع الحد الذي لا يحق للسوريين كسره أو حتى الاقتراب من حوافه. إلا أنهم حطّموا ذلك الخط في عام 2011 وإلى الأبد.
قصة "إلى الأبد" هذه، هي ما يختلف عليه غير السوريين مع أبناء هذا الشعب الذي واجه صنوف النكبات خلال العشرية الماضية (والتي يُراد لها أن تشبه العشرية الدامية في الجزائر للقول إن أسباب الاثنتين واحدة وهي مواجهة التطرف الإسلامي) وما قبلها دون أن يرف له جفن أو يفكر حتى بالتراجع عما مضى فيه.
يعتقد الملوحون بالتطبيع مع الأسد، بعد كل ما ارتكبه من جرائم بحق الإنسانية والقوانين الدولية وبحق شعوب المنطقة لا الشعب السوري وحده، عبر إغراقها بالكبتاغون، أن الزمن لا بد وأنه تكفّل بالأمر، واستطاع إقناع السوريين بغض أنظارهم عن تلك المطالب والشعارات التي رفعوها ليس ضد الأشخاص في البداية، بل ضد شكل حياة ونمط عيش وتفاعل وإنتاج لم يعد قابلاً للاستمرار.
الأنظمة العربية التي تمضي اليوم في التطبيع مع الأسد، لا تمتلك ذاكرة ولا خبرات كافية للتعامل مع نظام أكثر قدماً منها في المنطقة، بحكم كونه امتداداً لنظام الأسد الأب، بينما سعودية بن فرحان هي ليست سعودية سعود الفيصل، وقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، في الداخل والخارج، ولا مصر السيسي هي مصر مبارك، ولا الجيش المصري هو جيش العبور وحرب تشرين التي شارك فيها جيش سوري آخر غير هذا الذي قتل السوريين وهدم المدن السورية فوق رؤوس الأبرياء، ويختلط ذلك مع العديد من الأوهام والتصورات التي لا تمتّ لعالم الواقعية بصلة، بقدر ما تعتمد على القفز في الفراغ والخطوات غير المحسوبة وغير المستندة إلى وثائق ووقائع على الأقل في العلاقات الثنائية، إذ لطالما نكل نظام الأسد بالسعوديين وبارزهم وهدد أمنهم، ولكنهم يطوون صفحة هذا كله بذريعة طيّ سجل "الصحوة" والعهود القديمة، والحقيقة أن تاريخ السعودية لا يقتصر على الدعاة والمتشددين، فقد كان لثبات السعودية في مفاصل مهمة وحساسة من التاريخ العربي المعاصر بالغ الأثر، وكان ذلك بفضل الطبقة السياسية التي تصنع القرار وتدير العلاقات الخارجية للرياض حول العالم.
إذاً نحن أمام بداية جديدة لعلاقات تتلمس طريقها في الظلام، تعيد تصفير عداد الأسد، ولكن أكثر ما يشوب هذه الرؤية من خلل، هو اعتمادها على السذاجة السياسية في التعاطي مع فكرة أن الأسد لم يتغير هو الآخر. نعم بقي في السلطة، ولكنه لم يَعُدْ رئيس دولة، ونعم بقيت مؤسساته، لكن لم تعد مؤسسات دولة أو شبه مؤسسات دولة كما كانت، فسورية ما بعد الحرب ليست كسورية ما قبلها، وسرعان ما سيتضح ذلك مع التقلص الكبير للدور الإقليمي والعالمي الذي كان يقوم به الأسد الأب وبقية سنوات حكمه ميتاً حتى اندلاع ثورة الشعب على ابنه. وإيران التي ابتلعت النظام السوري كاملاً بدهنه وعظامه وما تبقى من لحمه لن تعطيه لأحد من أعدائها لقمة سائغة، وبناء على ذلك فإن صراعاً جديداً ينفتح بالتطبيع العربي مع الأسد، لن يؤثر على مسار الثورة السورية سلباً إذا تم فهمه بشكل معمق، ولن يتوقف حتى على مواقف هياكل المعارضة السورية المهتزة والتي لا تجرؤ على قول (لا) في وقتها المناسب، ولا النطق بـ (نعم) حين تكون الفرصة سانحة.
التمهيد الطويل المتلعثم لما أسموه تطبيعاً مع الأسد، ومن ثَمّ الخطوات اللاهثة وراءه، والتي بدت (نكاية بالطهارة) أكثر من كونها إستراتيجية دول، لا يجب أن يتعامل معه السوريون الرافضون لبقاء الأسد على أنه قادر على ابتزازهم عاطفياً، ومحاولة تغيير وجدانهم العميق عبثاً، فهم لن يتغيروا لا اليوم ولا غداً، ولا يجب أيضاً نسيان أن اللحظة التي قامت فيها ثورتهم كان الأسد يتمتع فيها بعلاقات كاملة مع العالم كله، بما فيه العالم العربي، وأن قطع العلاقات لم يغير شيئاً سوى أنه ترك الأسد المتوحش المجنون مع الأبرياء في غرفة مغلقة يفعل بهم ما يشاء، فقاطعوه بذريعة رفض سلوكه، ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر، يخلّون بينه وبين الضحايا دون أن يتدخلوا جدياً لإنقاذ السوريين من براثنه، ويفسحون له المجال ليحافظ على بقائه مهما كان الثمن.
المعادلة باختصار تقول للسوريين: إما أن تتخلوا عن كونكم مصدر إشعاع فكري وحضاري وتحرُّري للعالم العربي والعالم كله وإلا فسوف نستبدلكم بقاتلكم. وهذا المطلب يعني تخلي السوريين عن دورهم الذي لا يملكون غيره عبر تاريخهم الذي يعود إلى عشرة آلاف عام مضت قبل ظهور كل هذه الكيانات التي لن تصمد أمام عاصفة رملية قد تهب من هذه الجهة أو تلك.
إلا إن كان للتطبيع العربي مع الأسد سيناريو آخر لا يعلمه حتى المطبّعون معه، وهذا مقام آخر لحديث آخر.