عسكرة المجتمع السوري على يد إيران
تشير التقارير المتخصصة في رصد الميزانيات العسكرية للدول إلى مضاعفة الإنفاق العسكري في الموازنة العامة لإيران عاماً بعد عام، فقد قدم الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" مشروع القانون المتضمن تخصيص نحو 930 تريليون ريال (ما يعادل 22 مليار دولار) في 2022 للحرس الثوري الإيراني، فيما كانت مخصصاتهم في 2021 حوالَيْ 403 تريليونات ريال. وينطبق الأمر نفسه على بقية مؤسسات القوات العسكرية والأمنية الإيرانية، وإن كانت بنسب أقل مما هي عليه للحرس الثوري الذي وسع شبكات مصالحه الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية بالاعتماد على ضباطه المتقاعدين؛ لتشمل مشاريع الاستثمار في الغاز والنفط والتعليم، وتمكنه الإيرادات منها من استمرار دوره في التغلغل في كافة نواحي مجالات الحياة في المجتمع، وتضع الجميع تحت الأمر الواقع الذي خطط له ونفذه بعناية؛ وصلاحيات مطلقة من المرشد أو الولي الفقيه.
وتدل تلك الميزانيات الضخمة للحرس الثوري إلى جانب تمتعه بقيادة مستقلة تتلقى أوامرها بشكل مباشر من المرشد على المهامّ الكبيرة الملقاة على عاتقه داخلياً وخارجياً، التي تتمثل بتنفيذ الأهداف التوسعية لإيران في المنطقة والعالم عَبْر أذرعه المختلفة، والترويج لأيديولوجيا ما يسمى بـ"الثورة الإسلامية" في إيران عَبْر تقديم الخدمات الاجتماعية وإقامة المنظومات التعليمية، والثقافية وصناديق الصدقات وسط الفئات السكانية الإسلامية) خاصة التجمعات الشيعية منها (في الشرق الأوسط وفي أنحاء العالم، بما في ذلك الدول الغربية).
وظهر بوضوح الدور الملقى على الحرس الثوري الإيراني من خلال تكليف كبار قادته وعلى رأسهم "قاسم سليماني" لإدارة التدخل الإيراني بكل صوره وأشكاله في سورية منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة السورية مطلع عام 2011م. وعلى الرغم من مرور 12 عاماً على ذلك التدخل، فإن نشاطات إيران لا تزال حتى الآن تحت مظلته بنوعيها الخشن "الميليشيات الطائفية"، والناعم "النشاطات الدعوية والاجتماعية".
وتُعتبر مسألة عسكرة المجتمع واحدة من النقاط التي تلاقى فيها الحرس الثوري مع النظام السوري، وإنِ اختلفت الظروف والأسباب التي دفعت كلاً منهما لاعتمادها، فنظام الأسد عمل على تأسيس جهاز متكامل من البُنى والهياكل من أجل السيطرة الفكرية والأمنية والتربوية والإدارية داخل مؤسسات الدولة، فتم تأسيس الاتحاد الوطني للطلبة عام 1963 باعتباره منظمة "تعمل على تنظيم الطلبة في الجامعات والمعاهد، وفي عام 1968م تم إنشاء "اتحاد شبيبة الثورة" باعتباره منظمة تربوية سياسية تُعنى بتربية الفتية من عمر 12-18 سنة، وتأسيس منظمة طلائع البعث بتوجيه من "حافظ الأسد" وبقرار القيادة القطرية رقم 493 تاريخ 24/3/1974م، كمنظمات تربوية غير نظامية تعمل إلى جوار المنظومة التربوية الرسمية، وتكمل وظيفتها بإنتاج ثقافة مجتمعية تتمثل بالانغلاق السياسي والثقافي والقمع كسبيل لحسم الاختلاف والصراع والتوتر والتزلف من مراكز السلطة. وقانون خدمة العلم أو التجنيد الإلزامي المنصوص عليه في الدستور، وعلى الرغم من أنها تُعَدّ المنبع الرئيسي الذي تستمدّ منه الدولة عناصر القوة المتمثلة في الشباب. ما يجعل مسألة التجنيد الإلزامي موضع قبول لدى الجميع هو العدل في تطبيقها، إلا أن نظام الأسد عمل على إحكام السيطرة من خلالها على أفراد المجتمع وتنظيمهم، بغية تحقيق خضوعهم الكامل وسهولة انقيادهم وتغليب الأيديولوجيا العسكرية والبروباغندا العنفية الممزوجة بالطائفية في سبيل الحفاظ على رمز وطني واحد في الدولة، وهو الرئيس. كما أصدر قوانين الاحتياط وتشكيل الجيش الشعبي وإدارة الدفاع المدني وإدارة التعبئة لتسخير كافة القطاعات المدنية الخاصة والعامة لخدمة المجهود الحربي، وارتباطها جميعاً بوزارة الدفاع تمويلاً وتخطيطاً وتنفيذاً، وتنفيذ البيانات والمشاريع العسكرية المترافقة مع العسكرة الفكرية وشعاراتها المتعددة كالدفاع المشترك، والصمود والتصدي والمقاومة والممانعة وغيرها من الأمور التي أسهمت في عسكرة الأجيال الصاعدة، متخذاً من الاستعداد لمواجهة الخطر الإسرائيلي ذريعة لتبرير ذلك.
بدأت إيران عسكرة المجتمع في سورية على مرحلتين، اعتمدت في المرحلة الأولى على نشاطها في أوساط أبناء السوريين الشيعية؛ والتي شكلت التربة الخصبة لقبولهم للانتساب لميليشياتها، أو تشكيل ميليشيات خاصة بهم تُقاد من قِبل الحرس الثوري، منها على سبيل المثال لواء الرضا الشيعي في حمص المكوَّن من السوريين الشيعة الذين يعيشون في مدينة حمص وقُرَاها (قرى المزرعة وأم العمد والرقة والمشرفة والكم) وبعض المناطق الحدودية المرتبطة بالمجتمع الشيعي في لبنان، واللواء ٣١٣ في بصرى الشام في درعا ونبل والزهراء.
وترافقت المرحلة الثانية مع ضعف نظام الأسد ومؤسساته وتحولها إلى مؤسسات صورية، وخاصة العسكرية منها، وما تعانيه جراء الأزمة الاقتصادية وضعف التمويل من جانب، وسُوء الأحوال المعيشية وانتشار الفقر وانعدام فرص العمل من جانب آخر؛ فاستغلت إيران تلك الظروف في الإعلان عن التطوع في ميليشياتها من السوريين من خارج الطائفة الشيعية بشروط أفضل بكثير من شروط الخدمة في صفوف جيش النظام. وتتفاوت هذه المرحلة بين منطقة وأخرى حيث تتقدم في دير الزور في الوقت الحالي، وتتراجع في حلب وحمص ودرعا، لأسباب تتعلق بظروف كل منطقة وقدرة أبنائها على المناورة أو إيجاد البدائل.
تطلق إيران على العناصر السوريين في ميليشياتها اسم "العناصر المحليين" وهم يقعون في الدرجة الثانية في تكوين تلك الميليشيات من ناحية المعاملة والمهامّ. وهي لا تغفل عن الانتقام منهم عندما تتحين الفرصة وتتربص بهم للانتقام منهم والتخلص منهم لانتمائهم لبيئات جغرافية خرجت ضد النظام، أو لأسباب طائفية، فتزج بهم في الخطوط الأمامية في البادية لمواجهة كمائن داعش. وتجندهم ضد أبناء جلدتهم كما هو الحال في درعا، أو تتهمهم بتسريب المعلومات عند كل قصف يطال ميليشياتها من قِبل التحالف الدولي لتزج بهم في سجونها، أو تسلمهم للنظام للخدمة في صفوف وحداته الفارين منها أصلاً بسبب تخلفهم عنها كونهم مطلوبين للخدمة الإلزامية أو الاحتياطية، لأن الالتحاق بالميليشيات كان بالأساس بالنسبة لهم الإعفاء من تلك الخدمة وَفْق شروط العقد بين الطرفين.
مؤخراً، لعبت المراكز الثقافية الإيرانية، كواحدة من المؤسسات الرديفة للتواجد الإيراني دوراً كبيراً في تشكيل قناع لظاهرة العسكرة المجتمعية والترويج لها، حيث شملت نشاطات وفعاليات تلك المراكز مختلف المجالات الحياتية، ومختلف الفئات العمرية (ذكور – إناث- شباب - أطفال). وأعلنت عن دورات تدريبية وتأهيلية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية، ودورات في التمريض والتعليم للتوظيف في روضات تم إنشاؤها تحت عينه، ودورات أخرى في مجال التدريب على أعمال النفط، دفعت ببعض المنتسبين لتدريبهم في إيران، وتوظيف خبراتهم لاحقاً في سورية في الحقول التي تسيطر عليها كحقل التيم النفطي.
ونظراً لحاجة السوريين لتلك الدورات على أمل الانتفاع بها وخاصة التدريبية منها كالتمريض ودورات التدريب على أعمال النفط، شكلت عاملَ جذبٍ واستقطابٍ وإقبالاً عليها وبشكل خاص في مدينة دير الزور، الأمر الذي دفع القائمين على تلك المراكز لوضع شروط لتقديم خدماتها تتمثل بمنحها أولاً للعائلات التي ينتمي فرد منها إلى الميليشيات الإيرانية، وأنها تمنح تلك الخدمات "التعليمية والصحية والتدريبية والترفيهية" في المرتبة الثانية إنْ توفرت، للأشخاص أو العوائل من غير المنتسبين لميليشياتها، كنوع من أنواع الابتزاز والتوجيه للالتحاق في صفوفها.
ولتعزيز دور المراكز المذكورة، وترسيخ دورها في رسم وتنفيذ الخطط الخاصة باستقطاب المواطنين السوريين، وتجنيدهم لصالح المشروع الإيراني، عملت إيران على إعادة هيكلتها من جديد تحت إشراف المدعوِّ "الحاج رسول إيراني الجنسية" ذِي العلاقة الوطيدة مع الحرس الثوري الإيراني، والذي يُعتبر أحد أهم رجالاته في سورية.