د.أسامة قاضي: كتاب "سيناريوهات إعادة الإعمار في سوريا: ألمانيا الغربية أو فيتنام ..أم الشيشان

د.أسامة قاضي: كتاب "سيناريوهات إعادة الإعمار في سوريا: ألمانيا الغربية أو فيتنام ..أم الشيشان

لقد أفرد المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة قاضي كتاب: "الجذر الاقتصادي للثورة السورية" لشرح العواملِ الاقتصادية التي كانت سبباً من أسباب قيام الثورة السورية في مارس 2011، وتعرض فيها لواقع الاقتصاد السوري قبل عام 2011، وأوضح كيف كان البركانُ السوري الثائر في وجه العسف الاقتصادي نتيجة طبيعية لتدهور الأوضاع الاقتصادية لعموم الشعب السوري، ثم أتبعهُ كتاباً آخر بعنوان "البؤس الاقتصادي السوري" الذي تعرض فيه لواقع الاقتصاد السوري بعد الثورة السورية منذ عام  2011 إلى  2021،  وشرح عبر دفتي الكتابِ باختصار عبر حوالي 450 صفحةً واقعَ الاقتصاد البائس الذي شكّل فاجعة اقتصادية غيرَ مسبوقة منذ تأسيس الكيان السوري والحرب العالمية الأولى.

أما كتابه الأخير "سيناريوهات إعادة الإعمار في سوريا: ألمانيا الغربية أو فيتنام ..أم الشيشان" عبر 280 صفحة ونشره دار الملتقى للنشر، فهو كتاب يبحث عن فسحة أمل، وعن مشاريعَ للخروج من الاستعصاء السياسي والاقتصادي الخانق، والذي ينذر بمسح سوريا من على وجه الجغرافيا، وإن الاستمرار في تلك المساراتِ، وبعدَ أكثرَ من اثني عشرَ عاماً من اندلاع الثورة السورية، والذي يعني مزيداً من استنزاف الاقتصاد السوري، وإطالة في عمر عذابات السوريين من نزوح ولجوء وموت وتعذيب وآلام، وتقسيم للجغرافيا السورية، وتدمير وتفتيت الاقتصاد والجغرافيا السورية، وربما قضمها دون وجود مشروع حقيقي سياسي لإنقاذ السوريين.

بمعنى آخر، هذا الكتابَ ركز على مشاريع الحلول بنكهة الاقتصاد- السياسي التي يمكن أن تكون مَخرجاً من هذا الاستعصاء القاتل، وواقع القضية السورية الذي لا ينكره عاقل، أنَّ القضية تم تدويلُها حتى النخاع، ولم يعدْ في الجغرافيا السورية شبراً غيرَ مقسم لصالح قوى دولية نافذة عسكرياً مُشكلّةً مناطق نفوذ حقيقية، حيث يستعرض الدكتور قاضي الحلولِ كمقترحات لمشاريع حل، تحاول ألا تتجاوزَ الواقعَ ولا تبيع الأحلام للسوريين على حساب عذاباتهم، أملاً أن تلاقي أذناً صاغية من صنّاع القرار الدولي المعنيين بالمقام الأول بحسم الصراع في سوريا، وكذلك تضع بين يد السوريين هذه المقترحات كي يمعنوا النظر بها، وتشجعهم على طرح مقترحات إبداعية تكون بمثابة مبادرات سورية وطنية من أجل وقف النزيف السوري.

استعرض الكتاب "الركائز" الخمسِ لإعادة الإعمار بعد الحل السياسي، وهذه الركائز تم فحصها  في كلِّ سيناريو لتأكيد صلاحية أي سيناريو لإعمار لسوريا في المستقبل: الأمن والبيئة الآمنة، تطبيق القانون، الاقتصاد المستدام، الرفاه الاجتماعي، و حوكمة مستقرة.
استعرض دكتور قاضي السيناريو الأول وهو بقاء الوضع الراهن وأسماه سيناريو "الفناء" حيث يبقى  الوضع الحالي السياسي المتعثر على ما هو عليه دون حل سياسي أو صفقة سياسية!

الاستمرار في المفاوضات السياسية التي ترعاها بالدرجة الأولى روسيا حليفة النظام، التي بدأت بمسار جنيف ثم انحرفت إلى مسار آستانة برعاية روسية ومؤتمر سوتشي الروسي، الذي حظيَ بشبه مقاطعة كاملة للمعارضة السورية، ثم تمخَّضَ عنه لقاءاتُ اللجنة الدستورية، التي لم تناقشْ أيَّ مسألة جدية على الإطلاق إلى ساعة كتابة هذا الكتاب، والتي قصد منها الروسُ إضاعةَ الوقت وتشتيت المعارضة ويخلو من أي أمل في إعادة إعمار.
أما السيناريو الثاني الذي أسماه سيناريو "الانتداب الروسي وجمهورية شيشان السورية".

هذا السيناريو يفترض انسحابَ الأمريكيين من سوريا بشكل نهائي مع بقاء الطرف الروسي، والتمسكَ الروسي بالنظام الحاكم نفسِهِ.  انسحابُ الأمريكيين من سوريا بشكل كامل، معناه أن تصبحَ الأراضي السورية كلُّها تحت السيطرة الروسية دون أي تغيير في النظام الحاكم أو مؤسساته الأمنية أو تركيبته العسكرية؛ وعندها تصبح سوريا تحت الانتدابِ الروسي بشكل كامل، مع احتمال وجود تفاهمات روسية- تركية على إبقاء بعض أو كل الوجود التركي الحالي.

سبب تسمية السيناريو بالشيشان، هو أنه لم يصلْ إلى حلٍّ سياسيٍّ يحققُ حرية وكرامة السوريين والتمتعَ بحكم رشيد ودولة ديمقراطية؛ بل استتبابَ أمن مؤقت تحت الحراب الروسية والاضطهاد والقتل والتعذيب من قبل النظام السوري وتدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة
وبالنظر إلى التجربة الشيشانية التي تدخَّل فيها الروسُ بالحديد والنار كما فعلوا في سوريا، حيث إن المؤشراتِ العسكريةَ على الأرض تُظهر بأن الروسَ يفرضون سيطرتهم بعد القصف الشديد وسياسة "الأرض المحروقة"، وقد صرّح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 14 يوليو 2021 أن جيشَ بلاده جرَّبَ أكثر من 320 نوعَ سلاحٍ مختلف خلال عملياته في سوريا.

بدأت الشيشان عام 1991 القتالَ من أجل الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي المنهارِ، فقام الاتحادُ الروسي 1994 بإرسال 35000-40000 جندي إلى الشيشان لوقف التمرد، وفي شباط / فبراير 1995 سقطت غروزني على يد القوات الروسية.

الجدير بالذكر أنه رغم تمكّنِ الجيش الروسي من السيطرة على الشيشان في فبراير 1995، لكنَّ المقاومةَ الشيشانية ظلت تقلقُ الأمنَ الشيشاني، والبرلمانَ والشرطة الشيشانية التي يسيطر عليها قديروف الموالي للحكومة الروسية عرضة للهجوم من قبل المقاومة الشيشانية؛ التي لم يكن آخرها في 4 كانون الأول / ديسمبر 2014 حيث قاد مسلحون هجومًا على مبنى في غروزني، مما أسفر عن مقتل 20 شخصاً على الأقل. ليس هذا فحسب بل إن القلاقلَ طالت موسكو نفسها بعد حوالي عشر سنين على إخضاع الشيشان، حيث استولى المتمردون الشيشان في تشرين الأول / أكتوبر 2002 على مسرح في موسكو واحتجزوا أكثر من 700 شخص كرهائن، فاستخدمتِ القواتُ الروسية غازاً مجهولاً لإخضاع المسلحين؛ فمات على إثرها المتمردون ال 41 ومعهم 129 من الرهائن.
لم تقفِ القلاقلُ في الشيشان، بل إنه في يونيو حزيران 2003 قام الشيشانيون بهجوم انتحاري قتل 16 شخصاً في حفل موسيقي في موسكو، وبعدها في فبراير 2004 قُتل أربعون وجرح 100؛ عندما فجّر مهاجمٌ انتحاري قنبلة في قطار مترو موسكو، فاتهمتِ السلطات الروسية المقاتلين الشيشان بالعملية، وكذلك طالتِ القلاقلُ اغتيال أحمد قديروف رئيس الشيشان نفسِه في مايو 2004، بمعنى أن هذه الطريقة العسكرية في معالجة المسألة لم تخلق جواً من الاستقرار بعد عشر سنوات من سقوط الشيشان.

فهل ننتظرُ مستقبلاً مماثلاً لسوريا، فيما لو تابع الروسُ الحلَّ الشيشاني في سوريا؟
ويتوقع الدكتور قاضي أن تطبق على سوريا المزيدَ من العقوبات الاقتصادية على سوريا، وبقاء العقوبات القديمة وعزلة سوريا اقتصادياً، وستتوقفَ عملية إعادة الإعمار بشكل شبه تام، إلا من بعض المشاريع البسيطة المدعومة روسياً وإيرانياً، وكذلك بقاءَ مناطق النفوذ الروسية/الإيرانية والتركية دون حلِّ سياسي حقيقي، إضافة للمزيدَ من التغلغل الإيراني واستكمال التغيير الديمغرافي من أجل خدمة المشروع الطائفي الفارسي في سوريا، وستزداد حدةُ الصراع بين الإيرانيين والروس على النفوذ الاقتصادي داخل سوريا، والمزيدَ من بيع الثروات السورية باتفاقيات إذعان مع إيران وروسيا لقاء حمايتهم لرأس النظام.

إضافة لذلك سيكون هنالك التزاماتٌ سورية بتنفيذ الاتفاقيات مع النظام، وستتعثر معظم الاتفاقيات بسبب التمويل، والمزيدَ من الديون للروس والإيرانيين لقاء دعمِهم للنظام، سواء بخطوط ائتمان أو قمح أو نفط وبالقدر اليسير الذي يُبقي السوريين يتضورون جوعاً ويموتون برداً، والمزيدَ من التضخم والفقر والبطالة، وعندها يصعبُ النهوض بالاقتصاد السوري المتوقع للأسف، بل سيتدهور بشكل كبير.

الواقع السوري في هذا السيناريو هو تعثرُ إعادة الإعمار بشكل كبير، وعدمُ تحقق أيٍّ من الركائز الرئيسة الخمسِ لإعادة الإعمار.

ثم تطرق الدكتور قاضي للسيناريو الأهم وهو سيناريو إعادة الإعمار في سوريا مقترح ألمانيا الغربيةحيث أنه واضح أن كلا السيناريوهين السابقين: سواء سيناريو "الفناء" السياسي الذي يتبعه قضمُ الجغرافيا السورية وربما فناؤها مستقبلياً، أو سيناريو "الانتداب الروسي"، حيث تهيمن روسيا على كل الجغرافيا السورية لا يصلحان كسيناريوهات لإعادة إعمار؛ حيث لا يتحقق أيٌّ من ركائز الاستقرار والإعمار الخمسِ التي ذكرناها.

أهمُّ وجهٍ من أوجه التشابهِ بين سوريا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، هو تدويل المسألة الألمانية كما هو الحال في المسألة السورية، حيث تمَّ عملياً وعسكرياً تقسيم سوريا لثلاثِ مناطقَ أمريكيةٍ روسية وتركية، وكذلك ألمانيا كانت مقسمة إلى أربعِ مناطق نفوذ بعد الحرب العالمية الثانية وهي: الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا.

عندما فشلتِ الاجتماعاتُ المتكررة لوزراء خارجية دولِ التحالفِ في زمن الحرب في حل الخلافات التي أعاقتِ التحركَ نحو تسوية سلمية نهائية، اقترح الأمريكيون الدمج الاقتصادي لمناطق الاحتلال؛ لتعزيز التعافي وتحرير المنتصرين من أعباء إطعام الألمان في البداية، استجاب البريطانيون فقط بشكل إيجابي حيث تطلبت منطقتُهم، مثل المنطقة الأمريكية، دعماً هائلاً للمواد الغذائية، وكانت النتيجة تشكيل عام 1947 ما عرف بايزونيا وهي وحدة اقتصادية تتألف من منطقتين: أمريكية وبريطانية، تعملان من خلال مجموعةِ مكاتب إدارية تقع في مدينة فرانكفورت.


واقعُ الحال السوري من هذه الناحية شبيهٌ بالواقع في ألمانيا، حيث إنَّ هنالك مناطق نفوذ حقيقية، وإن القوتين الرئيستين من الحلفاء – الروس والأمريكيين – مختلفتان، وكما في الوضع الألماني – كما سنرى فيما بعد-أدرك الطرفان أنه لا يمكن الوصول إلى تفاهم، فاختار الأمريكيون والبريطانيون تقسيم ألمانيا، والبدء بطرح ألمانيا الغربية كنموذج مقنع وناجح في المعسكر الرأسمالي، بحيث إنَّ نهوضَها الاقتصادي يثبت نجاح التجربة وبالتالي تتبعها بقية أوروبا، وفيما بعد ألمانيا الشرقية.

يبدو أن سوريا وصلت إلى نقطة اليأس من عقد أي اتفاق بين الروس والأمريكيين حول سوريا؛ لذا ربما يكون البدءُ بحل المسألة السورية من منطقتي النفوذ التركية الأمريكية كخطوة في الاتجاه الصحيح ضمن الظروف الدولية، وخاصة التصعيد العسكري والسياسي والإعلامي فيما يخصُّ قضية أوكرانيا ما بين الغرب وروسيا، الذي سيعقِّدُ فكرةَ حلحلة القضية السورية في أيِّ وقتٍ قريب، وقد يستغرق –لا قدر الله -عشر سنوات أخرى أو أكثر!
وأكد القاضي على أن اقتراحَ الحلِّ الألماني، هو اقتراحٌ مرحلي إلى أن يصل العالم مع السوريين إلى اتفاق سياسي يضمن لكل سوريا الموحدة عيشاً كريماً وحرّاً، دون استبداد، وهو ليس دعوةً إلى تقسيم سوريا المقسمة أصلاً الآن إلى ثلاثة مناطق نفوذ بل هو سيناريو إعادة توحيد سوريا إلى مرحلتين وهاهي ألمانيا اليوم موحّدة وليست مقسمة.

سيناريو ألمانيا الغربية هو ضمانٌ لعودة السوريين إلى منطقة آمنة داخل سوريا، يعود فيها اللاجئون والنازحون إلى جغرافيا سورية آمنة، مع استمرار المطالبة بسوريا واحدة وبلد واحد غير مجزأ، ولكن ذلك رهنٌ بالحل السياسي "إن وجد"، وإلى ذلك الحين، يجب القيام بخطوة وقف النزيف البشري السوري.

قررت بريطانيا والولايات المتحدة عام 1947 أن توحدا منطقتي نفوذِهما في ألمانيا إلى وحدة اقتصادية واحدة سميت "بيزونيا" كي تتعافى الصناعةُ الألمانية، وتنطلق عجلة النمو الصناعي بسرعة، وتتحرك التجارة معها، ويستطيع الألمان إطعام أنفسهم بأنفسهم، وتخف أعباء الاحتلال على الأمريكيين والبريطانيين، وهذا ما أزعج ستالين الذي عدَّ هذا خرقاً لمعاهدة بوتسدام، ولكن الحجَّةَ الأمريكية البريطانية هي أن الاتحاد السوفييتي خرق المعاهدة أيضاً عندما أجبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي وشكل حزب الوحدة الاشتراكي.
بناء عليه تشكل المجلس التنفيذي لبيزونيا المؤلف من 11 ألمانيّاً منتخبين ديمقراطيّاً من مناطقهم.
استمرت عمليةُ إعادة بناء المؤسسات السياسية الألمانية – حسب هنري ترنر-على قدم وساق في جميع أنحاء البلاد. بعد مدة قصيرة قامت قوى الاحتلال بالموافقة على تشكيل الأجهزة الإقليمية للإدارة الذاتية يسمى لاندر، وهو مصطلح يشير إلى الدول المُكَوَّنةِ في الأنظمة الفيدرالية للإمبراطورية وجمهورية فايمار.
بحلول عام 1947، كانت الولايات التي تمَّ إنشاؤها في المناطق الغربية يرأسها رؤساءُ وزراءٍ تختارهم مجالسُ برلمانية منتخبة بحرية.
في 25 يونيو 1947، انتخب 52 مندوباً في اقتراع غيرِ مباشر لمندوب واحد لكل 750.000 مواطن من قبل Landtage (البرلمانات) لثماني مقاطعات في بيزونا مجتمعين في فرانكفورت؛ في 9 أغسطس، تم تمرير قانون إعادة تنظيم الوكالات الاقتصادية في منطقتين. بعد ذلك بوقت قصير، برزتِ العيوبُ الهيكلية للمجلس الاقتصادي ككل، والتي تتطلب إعادة تنظيم إدارة المنطقة.
في 9 فبراير 1948، دخل قانون فرانكفورتر الذي يحدد التغييرات في المجلس الاقتصادي حيز التنفيذ. كانت هذه إعادة تسمية اللجنة التنفيذية باسم Länderrat ، وإنشاء Verwaltungsrat (المجلس الإداري) الذي شكله المديرون التنفيذيون ويشرف عليه رئيسٌ يسمى رسميًا Oberdirektor ،
وأخيراً، مضاعفة عدد المندوبين في المجلس الاقتصادي، وهو الأمر الذي لم يؤثر على نسبة الأحزاب السياسية في هذا البرلمان الاقتصادي الثاني.
كان شعار المرحلة بالنسبة للشارع الأمريكي "أبعد ألمانيا عن ظهر دافع الضرائب الأمريكي"
'Get Germany off the American taxpayer's back'
لذلك عندما خلف جورج سي مارشال بيرنز كوزير للخارجية الأمريكية في يناير في عام 1947، تعرّض لضغط قوي من جهات مختلفة، خارج وداخل إدارة الرئيس الأمريكي ترومان، من أجل التوطيد السريع وتقوية ألمانيا الغربية.

سيطرت مسألة التسوية السلمية الألمانية على جدول أعمال اجتماع مجلس وزراء الخارجية الذي  افتتح في موسكو في 10 مارس 1947، ولكن بحلول هذا الوقت كانتِ الخياراتُ الحقيقية المتاحة لمارشال محدودةً للغاية، وكانتِ الخياراتُ الدبلوماسية الأمريكية الأساسية مدفوعةً جزئيّاً بالخوف من النفوذ السوفيتي، وكان مؤتمراً فاشلاً لم يصلوا فيه لحلول عملية ولم يكن مولوتوف راضياً عن نتائجه، فهو عدا عن انتقاده لتجاوز اتفاقية بوتسدام من قبل أمريكا وبريطانيا، ومطالبة روسيا بتعويضات 10 مليار دولار، ووضع حوضُ الرور تحت سلطة الحلفاء الأربعة، روسيا عارضت إعادة بناء ألمانيا وإمكانية إعادة تسليحها من قبل الغرب، واتضح من الاجتماع حالةُ عدم الثقة بين القوى الغربية والاتحاد السوفييتي، وأن أيَّ تأجيل للنهوض بألمانيا هو كسب للوقت من أجل انتشار الشيوعية في أوربا بشكل أكبر.

كان مؤتمر موسكو مفصلياً بالنسبة لوزير الخارجية الأمريكي الجديد مارشال الذي حزم أمرَه في بناء ألمانيا الغربية حيث توقَّف في طريق عودته من موسكو، في برلين وأمر الجنرال كلاي بالمضي قدماً بقوة في تعزيز منطقتي النفوذ الأمريكية البريطانية المشتركة "بيزونيا"، والإسراع في مراجعة الإجراءات التي تدفع بالإصلاح والنهوض بمستوى الصناعة في بيزونيا لضمان الاكتفاء الذاتي للمنطقة بغض النظر عن العراقيل التي يضعُها الروسُ في وجه هذه المسألة، وأوضح في خطابه للشعب الأمريكي في شيكاغو 18 نوفمبر 1947 أن" استعادة أوروبا تتضمن استعادة ألمانيا، ومن دون انتعاش الاقتصاد الألماني لن يكون هناك انتعاشٌ للاقتصاد الأوروبي." وكانت هذه جزءاً من محاولة تسويق الفكرة للشارع الأمريكي والغربي عموماً.
فور تشكيل المجلس التنفيذي لمنطقتي النفود عام 1947 اقترحت أمريكا برنامج التعافي الأوروبي أو ما عرف بخطة مارشال، مما أزعج ستالين مرة أخرى لأن هذا برأيه خلافُ معاهدة بوتسدام.
أهم اجتماع عقد في 18 ديسمبر 1947 كان اجتماع لندن بوزراء خارجية أمريكا وبريطانيا وفرنسا، حيث قدّم اعترافاً سياسياً بالكيان الجديد "المجلس التنفيذي لمنطقتي النفوذ بايزونيا"، بمعنى أول ولادة سياسية للكيان الألماني الجديد أو ما عرف ب "دولة ألمانيا الغربية"، واكتملت ولادة الكيان الجديد في الاجتماع الأهم وهو اجتماع مؤتمر لندن 6 مارس عام 1948، حيث اندمجت مناطق النفوذ الثلاثُ الأمريكية والبريطانية والفرنسية في كيان ألمانيا الغربية وأصبحت "ترايزونيا" بدلا ًمن "بايزونيا".
كان ردةُ فعلِ حزب الوحدة الاشتراكي الألماني وزعيمِه الألماني الشيوعي فالتر أولبريشت (1893-1973) Walter Ulbricht Socialist Unity Party SED في منطقة النفوذ السوفييتي، هو الضغطَ على ستالين في صيف 1949 لتشكيل دولة ألمانيا الشرقية كمقابل لتشكيل ألمانيا الغربية، وبناء عليه تمَّ الإعلان عن ألمانيا الشرقية بتاريخ أكتوبر 1949 وكان أولبريشت هو أول رئيس لهذا الكيان الجديد من 25 يوليو 1950 حتى مايو 1971.
يؤكد دكتور قاضي أن هنالك حيثيات كثيرة للدعوة لسيناريو ألمانيا الغربية وأهمها وجود 753 قاعدة عسكرية أجنبية قسمت سوريا إلى ثلاثة مناطق نفوذ حقيقية لدرجة وجود حواجز ومعابر فيما بين المناطق الثلاثة بل إن منطقة الشمال الغربي لاتستخدم الليرة السورية منذ سنوات، وكذلك شلل الأمم المتحدة في عدم تطبيق 13قراراً أمميّاً وستةِ بيانات رئاسية بحق النظام السوري في الشأن السياسي أمرٌ مُقرفٌ، ولكن انحيازَ الأمم المتحدة في الشأن الإغاثي بات وقحاً أمام مخالفةٍ صريحة على الأقل للقرارات 2139 لعام 2014، و 2165 لعام 2014، و 2191لعام 2014، و2254 لعام 2015، و2258 لعام 2015، إضافة إلى أن حصار المدن يُعَدُ مخالفة صريحة لمقررات جنيف الرابعة وتجويع الناس حسب تلك المقررات هي جريمة حرب.
وكذلك الحيثية الأهم هو المشهد الإغاثي المرعب لمناطق النزوح داخل سوريا (ووضع اللاجئين في لبنان ليس أقل سوءاً) حيث أشار لما قامت به 56 منظمة (في 15 يونيو 2016) بتقديم مذكرةِ إدانة لأداء الأمم المتحدة وبطريقة احترافية لتُظهر انحيازاً تشمئز منه النفوس، وصحيفة الغارديان أشارت لتلك المذكرة.
لم يبق بعد أكثر من عقدٍ من العذابات وتدويل المسألة السورية حتى النخاع إلا خياران:
الخيار الأول: أن يعيش السوريون عبيداً ضمن "سوريا الموحدة تحت العلم الروسي " في منطقة النفوذ الروسي التي لا يستطيع العودة إليها أكثر من عشرة ملايين سوري عُذّبوا، وشُرّدوا واغتُصبت نساؤُهم، وقُتِل رجالُهم، وصُودِرت أموالُهم وممتلكاتُهم، واتهمهم النظام بالإرهاب، حيث إنَّ عليهم أن يعودوا ليواجهوا مصيرهم المحتوم مع أجهزة الأمن السورية كما كان الحال قبل الثورة، وستضاف إليها أجهزة الاستخبارات الإيرانية (وحزب الله كما في مطارات لبنان) والروسية، ويعيشوا في ظل حكم يسوده الفساد الإداري والفوضى الاقتصادية، وتنفير المستثمرين، وتكميم الأفواه أكثر شراسة مما كانت عليه قبل الثورة.
الخيار الثاني: أن يعيش على نصف سوريا تقريباً كلُّ من يتوق منهم للحرية والعيش الكريم، على أمل استكمال تحرير بقية سوريا من الاستبداد، وذلك بتنشيط مناطق النفوذ ضمن إدارة مركزية مهنية.
في الحالة السورية اعترفت جميعُ الدول صاحبةُ النفوذ أن مناطقَها جزءٌ من "سورية الموحدة"، وتقوم الحكومات التركية والإيرانية والروسية والأمريكية دائما بالتأكيد على وحدة الأراضي السورية، و"الحل السياسي" وآخرها تصريح الرؤساء أردوغان وبوتين وروحاني في أنقرة في4 أبريل عام 2018 في بيانهم الرسمي، رغم انخراط الجميع ومعهم النظام السوري، وأمريكا بالحل العسكري، وعدم دعم مسار جنيف للحل السياسي وإخفاق كل محاولات الحل السياسي.

لذلك فإن مسألة "سوريا الموحدة" التي ذكرتها اجتماعات آستانا تسعة عشر 19 مرة باتت بلا معنى عملي إطلاقاً، بحيثُ إن كلَّ بيانات لقاءات آستانة لم يوقِّعْ عليها أيُّ سوري لا النظام ولا المعارضة!
إذن بدأ التنافس بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي على الأرض الألمانية إعلامياً واقتصادياً لإثبات فشل السياسات الاقتصادية للمعسكر الاشتراكي.
بعد الحرب وفي 2 مارس عم 1948انتخب (أو اختير) لودفيغ إيرهارد مديراً للإدارة الاقتصادية للمنطقة الاقتصادية ثنائية – المنطقة تحت قيادة منطقتي النفوذ الأمريكي -البريطاني "بايزون" التي أنشأتها الإدارة الأمريكية والبريطانية.

Sonderstelle Geld und Kreditقاد سوندريستيل جيل أوند كريدت (المكتب الخاص للمال  والائتمان)
وهي لجنة خبراء تقوم بإعداد إصلاح العملة في مناطق الاحتلال الغربية في ألمانيا، وبدأتِ اللجنة مداولاتِها في أكتوبر 1947وفي أبريل 1948 أنتجت ما يسمى بخطة هومبورغ، التي تبنَّى عناصرها الحلفاء في إصلاح العملة التي مهدت الطريق لانتعاش الاقتصاد، وفي أبريل 1948 تم انتخاب إيرهارد مديراً للاقتصاد من قبل المجلس الاقتصادي لمنطقتي النفوذ البريطاني والأمريكي. وفي 20 يونيو 1948 تم تقديم المارك الألماني، وألغى إيرهارد ضوابط تحديد الأسعار والإنتاج التي سنتها الإدارة العسكرية، وقد تجاوز إيرهارد سلطته، ولكنه نجح في إنقاذ المارك الألماني.

استمر اقتصاد ألمانيا الغربية في التوسع، بمساعدة خطة مارشال، وظل السيد إيرهارد وزيراً للاقتصاد في البلاد حتى عام 1963 حيث أصبح ثاني مستشار لألمانيا الغربية، وتوفي في عام 1977.
أشار الدكتور القاضي لما كتبه إيرهارد في مقدمة كتابه "الازدهار عبر المنافسة": "أن هنالك 12 مليون ألماني لاجئ دخلوا ألمانيا الغربية، تلك المنطقة الجغرافية الضيقة فور انتهاء الأعمال العدائية، بمعنى أن 23 بالمئة من سكانها لم تسكن تلك الأرض قبل الحرب...في ظل مصانع ومساكن مدمرة، وتقسيم ألمانيا كوحدة اقتصادية موحدة" وهو يشبه بوضع سوريا الحالية حيث يوجد الكثير من سكان ريف دمشق وغيرها من المحافظات في الشمال الغربي كنازحين، كأن تشاهد سوري من الغوطة وداراي يسكن في إعزاز أو ادلب.

الجدير بالذكر أن الوضع السوري مشابه لوجود لاجئين ونازحين بما يقارب 12-15 مليون يحتاجون منطقة آمنة، يبدؤون فيها حياتهم طالما أن الأطراف مصرة على تجاهل الحل السياسي لسوريا موحدة، فلا أقل من تخفيف عذابات السوريين على مدى سنوات تجاوزت سنوات الحرب العالمية الثانية، فإذا أصرت القوى العظمى على عدم ترك السوق السورية والجغرافية واحدة، على الطريقة الألمانية في ظل حرب شديدة البرودة وبلا مشاعر وإحساس بعذابات السوريين في الداخل والخارج إلى درجة الفناء.

كما أشار إلى ماكتبه إيرهارد في كتابه: " تضاعفت إمكاناتُنا الصناعيةُ ستَ مرات منذ إصلاح العملة، وصادراتنا تقدر بنحو 36 مليار مارك ألماني في عام 1958، مما وضعنا في المركز الثالث في التجارة العالمية، أما بالنسبة للذهب فقد ارتفعت احتياطيات العملات الأجنبية من الصفر في عام 1948 إلى 1958 ما مجموعه 23 مليار مارك ألماني. ومن دواعي السرور بشكل خاص أنه سُجِّلَ في الفترة نفسِها تَضَاعُفُ الخدماتِ الاجتماعية ثلاث مرات، وكذلك استطعنا بناء أكثر من 4 ملايين منزل منذ عام 1949 إلى العام الذي بدأت فيه أول حكومة اتحادية"
والواقع السوري -برأي الدكتور قاضي- يحتاج تقريباً عددَ المنازل نفسَه بالنسبة للنازحين واللاجئين الذين فقدوا بُيُوتَهم في سوريا، فإن رقم 2-4 مليون منزل رقمٌ غير مبالغ فيه نظراً لحجم الدمار الذي ألحقه النظام الروسي والسوري والإيراني بالسوريين.
يجب برأي دكتور قاضي وضعُ حلٍ سريع عن طريق مؤتمر مماثل لما حدث في ألمانيا، تُدعى إليه تركيا وممثلو الاتحاد الأوربي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، بحيث يكون لدينا مؤتمر أممي سداسي سوري            Six Nations Conference for Syria ومهمة هذا المؤتمر إعلان منطقتي النفوذ الأمريكية التركية منطقة آمنة وبحدود واضحة، وتُعلَنُ بشكل مستقل عن باقي المناطق، وتبدأ فيها عمليةُ الدعم العالمي للإغاثة والتعافي المبكر وإعادة الإعمار بإشراف أمريكي - تركي.
إن على كل من تركيا والولايات المتحدة التخلي عن سلطات الأمر الواقع الحالي فهو ليس سيناريو توحيد أدوات عسكرية أو مدنية موجودة حالياً لأن كلتا الأدوات غير صالحة لتطبيق هذا السيناريو بل يجب عودة السوريين إلى أراضيهم ويتم انتخاب مجالس محلية ممثلة بشكل حقيقي للسوريين ومن ثم تعيين حكومة تكنوقراط سورية بشكل مؤقت يدير منطقتي النفوذ بطريقة فنية وبشكل مهني مدعومة من قبل الأتراك والأمريكان وكل الدول الغربية.

ستشكل منطقتا النفوذِ الأمريكي – التركي نواة صُلبةً لمساحة هائلة من سوريا الشمالية والشرقية بحيث تكون قابلة للحياة، ولا يمكن لمنطقة النفوذ الأمريكي بمفردها القيامُ بنشاطاتها الاقتصادية الطبيعية دون التعامل مع الحدود التركية السورية التي تبلغ أكثر من 900 كم، والتي بدأت الحكومة التركية وضع حائط حدودي أنهت منه حتى شهر ديسمبر 2017 أكثر من 781 كم منه، (انتهى بناء حائط العزل الحدودي عام 2018) بحيث يصعب أية عملية انتقال إلا بإذن الحكومة التركية. (حسب صحيفة حريات ديلي نيوز 18 ديسمبر 2017)
ستحتاج منطقتا النفوذ التركي – الأمريكي مخرجاً إلى البحر؛ لذا يجب إقناع الأتراك بإمكانية الاستخدام الحر للواء اسكندرون التركية/هاتاي كمنفذ بحري للسوريين في الشمال، ولا يمكن لهذا القسم من الشمال أن يَحيا دون منفذ بري وبحري، وكلاهما عبر تركيا، التي هي في النهاية جزء من حلف الناتو، وستكون هنالك الكثير من الطرق لتقريب وجهات النظر بين الطرفين.
إن وجود الإشراف التركي هو ضمانة للأمن القومي التركي عدم وجود جيب انفصالي على حدودها وضمانة للسوريين عدم تقسيم سوريا، ووجود إشراف الولايات المتحدة الأمريمية ضمانة للسوريين ألايكون جيوب منظمات إرهابية أو دويلة معزولة عن العالم، وهي ضمانة لوجود حكم ديمقراطي مدني لاوجود لحكم وميلشيات عسكرية في الشمال الشرقي أو الشمال الغربي بل هنالك وزارة دفاع حقيقية فاعلة وليس صورية، ولايوجد فصائل عسكرية لديها مكاتب اقتصادية تجني رسوم معابر وأتاوات، بل هنالك وزارة داخلية حقيقية ومجالس محاية منتخبة تمثل بشكل حقيقي الشعب السوري.
يجب فتح جسر جوي إغاثي في السنة الأولى عن طريق مطار الطبقة الأمريكي، أو أيِّ مطارٍ تركي قريب للحدود السورية، بحيث يؤمنُ سرعة دخول الإغاثات وتوزيعها بشفافية، عن طريق المجالس المنتخبة في الأرياف والمدن، وبإشراف المجلس الاقتصادي لسوريا الشمالية
ولابد -برأي دكتور قاضي- من قيام "مشروع مارشال" سوري، يتم من خلاله مساعدةُ الحكومة في مرحلة لاحقة لإعمار وتسيير أمور المنطقة، من بنية تحتية ورواتب موظفين، ومشاريع إنمائية، حيث يساهم في المشروع الأمريكي-التركي الأشقاء في الخليج والأصدقاء من الأوربيين واليابان وبقية الحلفاء.
قام الشعب الألماني بشرقه وغربه بهدم جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، وإن الشعب السوري ليس بأقل وطنية من الشعب الألماني الذين هدم جدار برلين بعد أربعين عاماً، وعاد شعباً واحداً على أرض واحدة لا تتجزأ، ولكن الألمان لم يكن لهم أن يفعلوا هذا لولا انتهاءُ الظلم السوفييتي في ألمانيا الشرقية ولولا انهيار المعسكر الاشتراكي وتغير الموازين الدولية، وربما على السوريين انتظار تفكك روسيا الاتحادية أو تغير الموازين الدولية قبل أن تتوحدَ جهتا سورية الشمالية والجنوبية.
كما طرح الكتاب فكرة سيناريو فيتنام كسيناريو آخر، حيث يعتبر دكتور قاضي أنه يجب أن يكون التركيز على النجاح الاقتصادي ما بعد الحرب، من خلال اقتصاد السوق والبيئة الآمنة والاستقرار السياسي، وتشجيع دخول الشركات العالمية، وهذا لا يتمُّ بوجود سلطة استبدادية تنفّرُ السكان والمستثمرين.

يجب التفكير بطريقة مدنية مقبولة عالمياً، حتى يقطفَ الجميع ثمرة الانتصارِ العسكري، وليس من الضروري أن ينتظرَ السوريون عشرين عاماً بعد انتهاء الحرب حتى يبدؤوا مشروع نهضتِهم الاقتصادية كما حصل في فيتنام.
يمكن للروس -برأي الدكتور قاضي-  أن يكسبوا اقتصادياً أضعاف ما سيكسبونه بالقهر العسكري لو أحسنوا الأداء السياسي في سوريا، وعلى رأس أولويات الروس يجب أن يكون إزالة النظامِ السوري؛ لأن وجودَه مزعزعٌ للثقة في الدولة، ومتهمٌ بجرائم حرب، وبينه وبين الشعب دماءٌ وعذابات، فلن تكسبَ روسيا لا المستثمر السوري والوطني ولا العربي ولا الأجنبي.

وقف الاتحاد السوفييتي جنباً إلى جنب مع القيادة الفيتنامية في الشمال، ضد التدخل الأمريكي في فيتنام الذي دعم حكومة سايغون في الجنوب، والذي وصل بالرئيس الأميركي كنيدي أن وقَّع معاهدةَ صداقة وتعاون اقتصادي بين بلادِه وفيتنام الجنوبية في أبريل/ نيسان 1961، والجدير بالذكر أن عدد الجنود الأمريكيين الذين أرسلوا في حينه 400 جندي فقط، وهو عددُ الجنود الأمريكيين نفسُه حالياً في سوريا! إلى أن وصل عددهم إلى 550 ألف في 1968.

دفع الاتحاد السوفييتي تكاليفَ اقتصادية باهظة بمعايير تلك الفترة من أجل دعم الفيتناميين، حيث بلغ الدعم الاقتصادي 1.7 مليار دولار والدعم العسكري 1.3 مليار دولار بين عامي 1968 و 1973وأعلى تقدير أنها وصلت 8 مليار دولار ما قيمته الحالية 23-48 مليار دولار أمريكي.

انتهتِ الحرب في فيتنام وقُتِل مليوني فيتنامي، وخلفت الحرب 3 ملايين جريح، و12 مليون لاجئ فيتنامي، وهو رقمٌ شبهُ مطابق للرقم في سوريا بين عامي 2011 و2021، وخرجتِ الولايات المتحدة من فيتنام... ولكن المشكلةَ هي ماذا بعد هذا الخروج، هل انتعش الاقتصاد الفيتنامي؟ هل عاش الفيتناميون عيشاً رغيداً؟ والسؤال الأهم: ماذا استفادت روسيا من حقبة ما بعد الحرب الفيتنامية؟

تنازل الفيتناميون عن حريتهم السياسية تحت حكم الحزبِ الشيوعي، لكنهم من دون وجود استقرار وحدٍّ أدنى من العدالة والتصالح مع العالم الذي يخلق فرص عمل ويشجع الاستثمارات العالمية ويُعطيهم حافزاً للإنتاج، لا يمكنهم من دون هذا الحدِّ أن يستمروا بالنشاط الاقتصادي، وعندها لن يقطف الثمرة الاقتصادية أحدٌ كما حدث في فيتنام ما بين عامي 1975-1995، ولم يقطفوا ثمرة اقتصادية حقيقية حتى عام 2000.
بعد الانفتاح الفيتنامي على أمريكا ودول الغرب، قطفت أمريكا وفيتنام الثمرة الاقتصادية لنهوض فيتنام كدولة آسيوية ناهضة. بينما استفادت روسيا من استثمارات فيتنامية في روسيا فقط بأكثر من ملياري دولار، لم تَعُدْ فيتنام بحاجة لمساعدة روسيا، وقامت روسيا بالاستثمار في مجالي النفط، وكذلك صدرت أسلحة روسية إلى فيتنام، ولم يكن لفيتنام أن تتبوَّأَ مكانتَها الاقتصادية الحالية لولا نهوض الاقتصاد الفيتنامي، وتحقيق وفورات وقيم مضافة من خلال علاقاتها مع دول العالم الغربي، وعلى رأسهم أمريكا.
إذا كانت فيتنام التي رعاها الاتحاد السوفييتي لتنتصرَ على الأمريكيين، تتبادل تجارياً اليوم خمسين ضعف ما تتعامل به مع الروس، فكيف بالسوريين وهم ينظرون إلى الروس على أنهم هم من قتلَهم وشردَّهم؟! لا يوجد حلٌّ لقطف ثمرة الوجود الروسي اقتصادياً في المستقبل دون ترسيخِ دعائم الأمن والسلام والقانون واقتصاد السوق والحرية الاقتصادية، وهذا لا يتمُّ دون وجودِ عدالة وفصل بين السلطات.
أمام الأضرار الهائلة بالاقتصاد السوري، لا يمكن لسوريا دون الانفتاح على العالم الدخولُ في عملية إعادة الإعمار، وإذا كان هذا متوقفاً على تعديلٍ في النظام السياسي، فعلى روسيا الدفع به لو أرادت فعلاً قطف ثمرة التدخل في سوريا.  كيف يمكن لسوريا أن تستضيفَ شركات أديداس ونايكي وهوندا وفورد وجي إم وآبل وسامسونج ونستلة ومئات الشركات العملاقة دون أن تتصالحَ مع العالم؟
صنّاعُ القرار الروسي يحتاجون لاستراتيجية نهوض سوري حقيقي يستفيد منها الجميع، بحيث يتجاوزون قانون قيصر عبر الاستغناء عن خدمات النظام السوري، وبذلك يتم تطبيق القانون بسهولة، من حيث عودةُ اللاجئين والنازحين وإخراج السجناء، وتُفتح صفحةٌ جديدة في سوريا تقودها روسيا بحكومة جديدة، وعندها يتم عقدُ مؤتمر إعادة إعمار، تساهم فيه كلُّ دول العالم وخاصة دول مناطق النفوذ الحالية، ولم يعد هنالك أيُّ عائق أمام دخول الشركات الأوربية والعربية والصينية والأمريكية والتركية والروسية إلى السوق السورية.
المهم في المرحلة الثانية من عمر سوريا التي يأمل السوريون أن تبدأ عام 2021 بحكومة تكنوقراط سورية، بحيث لا تحتاج سوريا لأن تنتظرَ عشر سنوات أخرى من العذابات الاقتصادية والفقر المدقع حتى تضعَ اقتصادها على السكة الحقيقية، كما حصل في فيتنام التي كانت حليفة الاتحاد السوفييتي، وعانت من الجوع والفقر بأكثر من عقد بعد خروج أمريكا، ولا داعي لتكرار تجارب يخسر فيها الشعبُ السوري المظلوم على مدى خمسة عقود من الديكتاتورية ودساتير تكرس التسلطية، بل يحتاج الدستور السوري البند الثامن الوارد في الدستور الروسي الذي يعرف اقتصاده بأنه اقتصاد سوق، ومن مثل الدستور الفيتنامي الذي يعرف بأنَّ توجَّهه الاقتصادي يتبع سياسة اقتصاد السوق، حيث إنه يشجع حسب الدستور وتوفر الظروف المواتية رجال الأعمال وشركات للاستثمار والإنتاج للقيام بالأعمال التجارية؛ لأنها تُؤْمِنُ بدور تلك المؤسساتِ في المساهمة في التنمية المستقرة، وتضمن سلامة الممتلكات القانونية للأفراد ولشركات الاستثمار وأنها لا تخضع للتأميم، واحترام قواعد السوق وممارسة التفويض واللامركزية، حيث ذُكر الاقتصاد 33 مرة، والتنمية 23 مرة.

إن الإسراعَ باستبدال تركيبة النظام الحالية بمنظومة اقتصادية ذات رؤية استراتيجية عالمية مثل فيتنام اليوم التي اقتحمت الأسواق الأمريكية، حيث صدّرت فيتنام للولايات المتحدة الأمريكية من الهواتف المحمولة والمعدات ذات الصلة بقيمة 6.95 مليار دولار أمريكي، ومن الأثاث وقطع الغيار 2.91 مليار دولار، والأحذية الرياضية والنسيجية 1.76 مليار دولار أمريكي، ومن المقاعد 1.49 مليار دولار، ومن أشباه الموصلّات الحساسة للصور 1.42 مليار دولار أمريكي.

فهل يستفيد الروسُ من تجربتهم في فيتنام، ويُخالف الروسُ التوقعاتِ بمساعدتهم السوريين في تحقيق المعجزة الاقتصادية السورية، وتجاوزِ النظام السوري الحالي غير القابل للتسويق والتعويم، والمساعدة في بناء حكومة تكنوقراط وطنية والتصالح مع العالم، تلك المعجزة التي تحققت في فيتنام التي ارتفع ناتج دخلها القومي من 6.7 مليار دولار إلى 261 مليار دولار عام 2019!
يفترض هذا السيناريو -حسب الدكتور قاضي-  أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من كل سوريا، وأن روسيا وضعت يدَها على كل الجغرافيا السورية، وبناءً عليه يوصي هذا السيناريو الروس أن يستفيدوا من تجربتهم في فيتنام التي تقول: بأن الوقوفَ العسكري إلى جانب الفيتناميين لم يقطفْ ثمرته الاقتصادية الروس، بل إن أمريكا هي التي استفادت من النهوض الاقتصادي لفيتنام، وباتت أكبرَ شريك اقتصادي لفيتنام بعد الصين.
والسيناريو المطروح على الروس هنا هو أن يقوم الروسُ بإغلاق ملفِّ النظام كي ينتهيَ من ملف العقوبات الاقتصادية، ومن ثم تتصالح مع العالم، ويتحقق الحد الأدنى من الحكم الرشيد مع نهضة اقتصادية عظيمة كما حدث في فيتنام.

وهناك إمكانية تطبيقُ الركائزِ الخمسِ لإعادة الإعمار وإن كان بدرجة أقل من سيناريو ألمانيا الغربية لو أن روسيا اقتنعت، وأرادتِ الاستفادة من تجربتها مع فيتنام.

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد